لماذا يراوح الذهن "العربي والإسلامي" في تقدير المواقف وردود الأفعال بين العنف والاستسلام؟ لماذا لا يمكن ملاحظة الشجاعة والجرأة والقوة في المواقف السلمية المعارضة وفي إبداء الرأي؟ بالطبع، أصبحت هذه الفكرة اليوم مع ربيع الشعوب العربية متقبلة ومطروحة على نطاق واسع. فقد أثبت الإصلاحيون العرب، بجميع أطيافهم واتجاهاتهم، أنهم قادرون على الإصلاح والتغيير من غير عنف، وأنهم يملكون خيارات واسعة في المواجهة والمعارضة، ولم تعد الدعوة إلى العمل اللاعنفي عملا سريا يجري في الأقبية فقط. وحدث لدينا تحول كبير جدا في الأردن، عندما صار الإصلاح هو المتعلق بمستوى الحياة والحريات والعدالة، بعدما كان ذلك العمل إلى وقت قريب أقرب إلى الخيانة.
لماذا نخاف من التعبير؟ لم لا نتجرأ على كلمة الحق؟ يتساءل خالص جلبي. ويجيب بأن السبب بسيط، هو أننا لا نملك الخطاب الإنساني، ليس عندنا رأي، طالما كان يدور حول إلغاء الآخر، ففقدنا الجرأة والصراحة والقوة والصدق، وأصبنا بداء الأمم المخاتلة، والكذب والالتواء والمراوغة والنفاق. لقد انتشر مرض التقية كالسم بسبب الصراع السياسي، والتآمر من أجل استبدال شريحة بشريحة أخرى، فهو مرض إنساني قبل أن يكون مرض فرقة سياسية، مرض يمكن أن تصاب به الشرائح المتصارعة في الظلام على حد سواء.
وتتبدى هنا قضية بالغة الأهمية. فليس العمل الإصلاحي استبدال نخبة سياسية واجتماعية واقتصادية بنخبة أخرى، فلا فرق في الاستبداد والفساد والظلم إن كان المستبد ليبراليا أو إسلاميا، وهو ما يجب التحذير منه بل والمبالغة في التحذير. وأكاد أعتقد (وأرجو أن أكون مخطئا) أنه لا يكاد يوجد فرق كبير في الاستعداد والقابلية للفساد والاستبداد بين النخب الحكومية والنخب المعارضة. وثمة ما يدعو إلى القلق الكبير، والأمثلة المؤيدة لهذا القلق كثيرة جدا، بأن المعارضة القائمة اليوم في الأردن (كثير منها إلا من رحم الله) برغم دعوتها إلى الإصلاح والحريات، فإنها لن تكون أكثر صلاحا وحرية، وربما تكون أكثر ظلما واستبدادا من النخب الحكومية. ولا بأس بالتذكير بأننا نعني دائما بمصطلح الحكومة (وهذا اختراع أردني بامتياز) طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا نعني مجلس الوزراء القائم. يذكّر إدريس المهدي، الباحث في قسم الفلسفة في جامعة باريس، بالفرق المنهجي بين مبدأ اللاعنف في المستوى النظري والأخلاقي وبين مبدأ اللاعنف في المستوى الاستراتيجي والسياسي ككفاح ومقاومة لا عنفية على أرض الواقع. فمبدأ اللاعنف في المستوى الفلسفي والأخلاقي هو بمثابة البوصلة والخريطة اللتين يبحث بهما الإنسان عن الاتجاه الحقيقي الذي ينبغي على الإنسان نفسه وعلى التاريخ أن يسلكاه في أثناء معارك وصراعات الحياة، بينما مبدأ اللاعنف في المستوى الاستراتيجي يبحث عن الفعالية في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهذا يعني بالضرورة أنه ليس كل لاعنف هو في الحقيقة لاعنف!
(الغد)