مركزية الهوية الوطنية وأثرها في الفقه الإسلامي
د. محمد العايدي
14-11-2024 12:12 AM
الهوية الوطنية هي مفهوم يعبر عن انتماء الفرد لدولة معينة أو مجتمع محدد، ويتمثل ذلك الانتماء في الالتزام بالقيم المشتركة، والثقافة، والتاريخ، والتطلعات السياسية والاجتماعية، وتساهم الهوية الوطنية في تشكيل الانتماء والوحدة المجتمعية، وتؤثر بشكل كبير على التشريعات والآراء الفقهية التي تتعامل مع مسائل المواطنة والولاء والتعايش.
كما تعد الهوية في الإسلام من المفاهيم المتشعبة، حيث تشمل جوانب متعددة من حياة الفرد والمجتمع، وفي هذا السياق، يرتبط الانتماء الوطني بالتفاعل مع مفاهيم دينية، مثل العقيدة والأمة والوحدة الإسلامية، ومن منظور إسلامي، يمكن النظر إلى الهوية الوطنية بوصفها نوعاً من الولاء للدولة والالتزام بتوجيهاتها ضمن إطار الشرع، حيث يُطلب من المسلم الحفاظ على الأمن والاستقرار، والالتزام بالقوانين التي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام.
يطرح الفقهاء قضايا متعددة تتعلق بالهوية الوطنية مثل الانتماء إلى الدولة، والطاعة لولي الأمر، وتحقيق السلم الاجتماعي، ويعتبر مفهوم “دار الإسلام” و”دار الكفر” مثالاً واضحاً على تطور النظرة الفقهية تجاه مفهوم الهوية الوطنية، إذ تطورت الرؤى الفقهية مع تغير طبيعة الدول والأنظمة السياسية، ما أدى إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية ضمن إطار الدول الحديثة.
أثر الهوية الوطنية على الفقه الإسلامي:
1.الولاء والبراء
لا بد من التفريق بين الولاء الديني والولاء الوطني، حيث أن الولاء للدين لا يتعارض بالضرورة مع الولاء للوطن، فالولاء للوطن يعزز الوحدة الاجتماعية ويشجع على التضامن والتعايش بين المواطنين من مختلف الخلفيات. وهنا يأتي دور الفقه في توضيح أن الولاء الوطني لا يعني التضحية بالقيم الإسلامية، بل يتطلب إيجاد توازن بين القيم الإسلامية ومتطلبات الحياة المعاصرة.
2.قضايا المواطنة وحقوق غير المسلمين
أثر مفهوم الهوية الوطنية على قضايا مثل حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، حيث نص الفقه الإسلامي على حقوق غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية، وفي ضوء المفاهيم الوطنية الحديثة، عززت الفتاوى المعاصرة مكانة المواطنة بصرف النظر عن الدين، مما يتسق مع مفهوم الهوية الوطنية الشاملة التي لا تفرق بين المواطنين على أساس الدين، وتدعم العدالة الاجتماعية والمساواة.
3.التعددية الثقافية والتعايش
شجع الإسلام على التعايش والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات المختلفة، ومن هذا المنطلق، يمكن للهوية الوطنية أن تلعب دوراً كبيراً في تعزيز التعددية الثقافية، حيث تعمل على جمع المواطنين على اختلاف أديانهم وأعراقهم، مما يتوافق مع المفاهيم الإسلامية الداعية للوحدة والعدل. الفقه الإسلامي الحديث أخذ يعزز هذه القيم من خلال دعمه للتعايش واحترام حقوق الإنسان.
4.التفاعل مع النظام القانوني الوطني
يشير الفقه إلى ضرورة التزام المسلم بقوانين الدولة التي يعيش فيها طالما لا تتعارض مع الشريعة، ويؤكد الفقهاء على أهمية التعاون مع السلطات من أجل حفظ الأمن والاستقرار، ومن هذا المنطلق، يمكن للهوية الوطنية أن تكون وسيلة لتعزيز الانضباط القانوني والولاء للدولة في إطار من الاحترام المتبادل بين الدولة والأفراد.
5.التفاعل مع قضايا الأمن والدفاع عن الوطن
يعزز مفهوم الهوية الوطنية روح التضحية والولاء للوطن، ويدعو الفقه الإسلامي إلى الدفاع عن الأرض والعرض، ما ينسجم مع مفاهيم الوطنية، حيث يدفع الفقه الفرد للمساهمة في الدفاع عن وطنه ضد أي تهديد خارجي أو داخلي، ويجعل من مفهوم التضحية من أجل الوطن واجباً دينياً ووطنياً.
ولذا على الفقهاء اليوم ان لا يغفلوا مركزية الهوية الوطنية في اي اجتهاد فقهي ومنها مفهوم "الجهاد " فلا بد ان يفهم ويعلم في كليات الفقه الاسلامي مع مراعاة هذه المركزية للهوية الوطنية، وليس بمعزل عنها فترى البعض اليوم من الفقهاء يتحدثون عن الجهاد وكأننا في الصدر الاول من الاسلام متجاوزين كل المعاني الجديدة للدولة الحديثة، وهذا أوجد عندنا انفصام فقهي واضح بين التأصيل والواقع مما يستدعى منا اليوم اعطاء بعد الهوية الوطنية استحقاقا فقهيا يتناسب مع تطور مفهوم الدولة الوطنية المعاصرة.
التحديات المعاصرة لمركزية الهوية الوطنية في الفقه الإسلامي:
1. العولمة
أدت العولمة إلى تراجع الهويات الوطنية أمام انتشار الثقافات والقيم الأجنبية، مما جعل المسلمين يواجهون تحديات تتعلق بالتماسك الوطني. وهنا تأتي مسؤولية الفقه الإسلامي لتعزيز الهوية الوطنية كعنصر يعزز الانتماء والمواطنة.
2.التحديات الطائفية والعرقية
أظهرت التحديات الطائفية والعرقية أهمية الهوية الوطنية كإطار جامع للأفراد بعيداً عن الانتماءات الطائفية والعرقية الضيقة، ويسعى الفقه الإسلامي إلى دعم هذا الاتجاه وتوجيه المسلمين نحو التركيز على قواسمهم الوطنية المشتركة.
3.التفاعل مع التشريعات الوطنية الحديثة
تتطلب التشريعات الحديثة توافقاً بين الفقه والقوانين المدنية، وفي هذا السياق، يسهم الفقه الإسلامي في معالجة قضايا الهوية الوطنية من خلال تفسير النصوص الشرعية بشكل يتماشى مع متطلبات العصر ويحافظ على القيم الإسلامية.
وأخيراً تعد الهوية الوطنية اليوم محوراً أساسياً للتوافق بين مكونات المجتمعات الإسلامية، وتسهم في ترسيخ الاستقرار والسلم الاجتماعي، ومن خلال الفقه الإسلامي، يمكن دعم الهوية الوطنية وتعزيزها، لتكون أساساً لبناء مجتمع مترابط يحترم التعددية ويسعى لتحقيق الخير العام.