الاردن: الثقافة و الشباب1
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
13-11-2024 11:25 PM
هنالك مفهوم خاطئ للثقافة بأنها كثرة القراءة و لكن ذلك يغفل اهم نقطة و هي انعكاس الثقافة على السلوك البشري و رفع قيمة الذات. لذلك اميل لتعريف الثقافة بأنها مجموع ما يحصل الفرد من معارف (بالقراءة، المشاهدة، المجالس، السفر..الخ) بحيث تعمق التفكير و توسع الادراك و ترفع القيمة الذاتية و تنعكس على السلوك قولا و فعلا.
لذلك فإن الثقافة لا بد ان تنعكس حكما على الاخلاق في كل تفاصيل الحياة بحيث تعطي شئ من الرقي و القيمة و ليس السطحية و الثمن.
ان غياب هوية ثقافية سليمة سيؤدي حكما الى التطرف و التعصب و رفض الاخر و سلوك لا ينسجم و القيم النبيلة التي تمثل الموروث الثقافي لاي مجتمع او امه.
الثقافة تشكل الهوية و العكس صحيح فمثلا الثقافة الدينية يندرج تحتها كم من الهويات القومية و المحلية و بالمقابل فإن هوية اي دولة يندرج تحتها ثقافات متعددة.
مثلا من منظور ثقافي فإن نجاح ترامب ليس حدثا عاديا و لا يمثل فقط مجئ رئيس امريكي بل هو انتصار لمشروع عالمي على مشروع آخر استفحل في السنوات الاخيرة و كان على وشك الانتصار.
لقد كان هنالك مشروعين ثقافيين يتصارعان الاول المشروع التنويري و القائم على تفكيك كل المجتمعات بدءا بالاسره و انتهاءا بالدول و الاديان لصالح حرية لامتناهية للفرد تعدت حدود الحرية العادية الى حرية تغيير الذات و اصبح هذا المشروع بمثابة دكتاتورية مقنعة تحت مسمى حرية الفرد في تحديد توجهه الجنسي و حتى تعريفه كانسان بحيث يستطيع الطفل ان يتخيل نفسه حيوان و له الحرية بان يعامل كذلك.
بالمقابل فإن المشروع الآخر ثقافيا قائم على المحافظة على الاسر و الدول و الهويات و القوميات و تحديد حرية الفرد ضمن ما اتفق على المجتمع الانساني.
كلا المشروعين تقوم قيادتهم على الارض الامريكية و راس الحربة في الاول الديمقراطيين الليبراليين الجدد و في الثاني المحافظين الجدد.
المشروع الاول له اتباع مؤمنين به حد التطرف و هدفه البعيد مجتمع انساني متفكك و فرد حر متقلب مع حكومة عالمية تحكم هذه الكنتونات المتفرقة و تتعامل معها بفوقية نخبوية مطلقة.
طبعا المشاريع الكبرى لا تختفي و لكنها تنتقل من حال الى حال و ستبقى تصارع و الاشهر القادمة حبلى و خطيرة خصوصا ان المشروع الاول لا يمانع بحدوث حرب عالمية ثالثة.
يقودنا ذلك الى أن العالم ما زال محكوما بالنموذج الامريكي بتأثيره الاقتصادي و الثقافي اكثر من تأثيره العسكري فالصين اليوم برغم التقدم الاقتصادي و التكنولوجي ما زالت غير مؤثرة ثقافيا و أما روسيا فهي عملاق عسكري و لكن انتهى اثرها الثقافي بسقوط الاتحاد السوفييتي.
النموذج الوحيد الباقي ثقافيا بعد النموذج الامريكي هو النموذج العربي و برغم الضعف العربي عسكريا و سياسيا فإن النموذج الثقافي ما زال حي و مؤثر و له جذور تاريخية عميقة و هذا يعيدنا الى موضوع مقومات الهوية و مظاهر الهوية.
مقومات الهوية هي اللغة و الاعتقاد و التاريخ و الجغرافيا و هذه تجتمع جميعا تحت اللغة العربية و التاريخ العربي في منطقتنا لذلك التقي بالهوية مع المغربي و المصري و الخليجي و العراقي أما مظاهر الهوية فهي تختلف من منطقة لاخرى و من بلد الى بلد و مظاهر الهوية هي اللباس و اللهجة و الطعام و العادات و التقاليد لكن اذا عدنا للتعريف الحقيقي للهوية فكل الدول العربية هويتها العروبة حكما و تختلف مظاهرها خصوصا أن المجموعات الفردانية الجينية للامة العربية خليط بين الجينات العربية و الافريقية و غيرها و لكن الجينات ليست جزء من مقومات الهوية.
اعتقد أن مشكلة الامة العربية أننا لم نتفق على آلية حكم و بقينا في صراع بين نماذج محلية و نماذج دينية و نماذج مستورة طورتها شعوب اخرى على مقاسها فكانت اما ضيقة او واسعة على مقاسنا. فالنموذج الشيوعي و الاشتراكي و الراسمالي نماذج مستوردة و النموذج القبلي نموذج محلي و النموذج الديني في الحكم كان في عصر مختلف فرضه منطق مختلف و أما النموذج القومي فقد فشل لفشل القائمين عليه و ميلهم للاستبداد و الفساد المالي و الاداري و المغامرات اللامحسوبة.
ما زلنا نجتر تلك النماذج و كل فريق يتمترس خلف نموذج مع أن الاصل ان هدف اي نموذج هو اولا بقاء الدولة او الامة و ثانيا العدالة الاجتماعية و الرفاه ان توفرت الظروف و قد يكون البعد عن الظلم و الاستبداد اهم من السعي للعدالة و المساواة. لذلك برايي دولنا في المشرق ما زالت ضعيفة سياسيا لانها قائما فقط على سلطة تنفيذية و ما زالت تبحث عن نموذج مناسب لبناء الثقة بين الفرد و السلطة و الطريقة الاسهل و لكن الاقل مرونة بالتأكيد هي القوة الخشنة في حين أن الطريقة المثلى هي القوة الناعمة التي تعطي مساحة للفرد ضمن هوامش و تسعى لبناء الثقة بين الفرد و المؤسسات.
لنا أن نتخيل اول مجتمعات انسانية الكل فيها يملك كل شئ تغيب فيها السلطة و تغيب فيها الطبقية الى ان تشكلت مجموعة من الأقوياء في مجتمعات الصائد لاقط امتلكت و بالتالي تشكلت السلطة و الطبقية. ثم تغيرت المعادلة بالانتقال الى المجتمع الزراعي و توفر الامن الغذائي و الاستقرار و لكن عادت الطبقية و معها السلطة الى ان ظهر الفكر و الثقافة التي اما ان تتماشى او تتحدى القوة فكانت النماذج الثقافية هي مفاصل التغيير الانساني و محرك الصراعات و الحروب و كذلك الازدهار لذلك نرى ان ظهور الدين الاسلامي في مكة البعيدة عن الامبرطوريات الفارسية و الرومانية في حينه كنموذج ثقافي غير المنطقة العربية و العالم القديم و كذلك النموذج الثقافي للثورة الفرنسية هو من صاغ اوروبا و امريكا اليوم و النوذج الثقافي الشيوعي الاشتراكي كاد ان يعيد تعريف العالم لذلك فإن اليوم هنالك فقط نموذجان عالميين او عابرين للحدود و هما النموذج الغربي و النموذج العربي اما باقي النماذج فهي نماذج ثقافية محلية محدودة التاثير.