وَسَطَ هَذَا العَالَمِ الْفَوضوِي، وَإِيقاعُ الحيَاهِ الْمُتسارِعِ، وفِي مُعْترَكِهَا اللَّامْتنَاهِي مِنْ القُوهِ وَالهيْمَنهِ ،وَوسَطِ تَغْييراتِهَا الْمهُولِهِ يَنتَابِكُ شُعورٌ بِأَنَّ عَقلكَ لَمْ يَعدْ مَلَكَكَ، فَيُسيطِرُ عَلَيهِ التَّشتُّتُ وَالتَّفكيرُ وَتَمْلَؤُهُ الغَوايهُ ،مُزْدحِمًا بِنَشوِهِ الضَّجيجَ الذِي لا يَهدَأُ.
فَالعُقُولُ لَا تَشيخُ بِتقدُّمِ العُمْرِ ، بَل بالتَّوقُّفِ عَنْ تَغذِيَتهَا وتعزيزِهَا بِمَا يَنفعُ.
فَتَرَى البَشرُ لاهِثينَ بِالإنشِغَالِ بمَا حوْلَهمْ فَتذهَبُ أَعْمَارُهُمْ نَصبَ أَعْيُنِهم وَهُم لَا يعلَمُونَ ، كيفَ يَتقبلونَ أَنْ تَشيخَ عُقولُهم وَيتجاهَلونَ جُودهُ حَياتَهم ،وَكأَنَّ هُنالكَ حَقائقَ رَاسِخهِ بِأَن يعِيشُوا وَيَتعايَشُوا بِسَجنِهمُ الأَبدِيِّ الذِي اقْفُلُوا عَلَى أَنْفُسِهِم بِداخِلهِ فَتَذْهبُ أَحْلَامُهمُ ادراجَ الرِّياح ،فَيسلُكونَ تِلكَ الطُّرقَ الملِيئَهَ بِالثَّرثرِهِ وَالْجعجعِهِ، وَيمْتهِنُونَ الْغرقَ فِي الْخُدعِ الْخَبِيثَةِ الَّتي اقْتحمَتْ عَقولَهمْ، فَيَستَنْزِفُونَهَا بِصِراعاتٍ تُلْقِي بِهمْ فِي غَياهِبِ الْجُبِّ ، وَيَتَمَسَّكونَ بِمُعْتقدَاتِهِم وَأَفْكارِهِم الْبَالِيهِ ،وَكَأَنَّهُ مِنْ العَارِ أَنْ تَكونَ عُقولُهُم وَأَذْهانُهمْ تَواقُهُ لِلْمعرِفِهِ ، فَتَبْقَى خَاوِيهِ كَالطبْلِ الْأَجْوَفِ تَسُودُهَا الْمَفَاهِيمُ العَشوائِيهُ.
فَلَا يَسعَوْنَ لِاسْتعَاضتِها وَ لا يُريدُونَ الْعزْفَ علَى اوتَارَ الحقِيقِهِ يُصرُّونَ أَنْ يَبقَوا عَلَى هُويَّتهمْ التي أَقرَّ بهَا الاخرُونَ ، مُتَصالِحين مُنْسَجمين بِانْسدَادِهمْ الفِكرِيِّ، يُريدُونَ الْمَسيرَ بِرفْقهِ خَارِطتهُم الْمَرْسومِهْ المُتأَصِّلُهُ بِأَدمِغتِهِم ، تلكَ الَّتي تَجعَلكَ لَا تَقودُ عقلَكَ فَتبقَى بَلِيدًاً تَعتريكَ مُهِمهُ التَّفكيرُ ضِمنَ حُدودِ ذِهنكَ.
أَما رُؤْيتي لِشيخُوخةِ العقُولِ ،تَبدأُ مِنْ ابتعَادِ الْبَشرِ عَنْ ذوَاتِهِمْ وَعَدَمِ فَهمهَا وَتقَبلِهَا ،فَباتتْ عُقولُهمْ حائِره خَائرُهُ الْقُوى مُضْطرِبهُ بِهَا شرْخٌ خَفيٌّ ،وكأَنَّهُمْ يُريدُونَ البقَاءَ عَلى تلكَ النُّسخهِ المُشوَّهِهِ مِنْ عُقُولِهِم رَافِضينَ أَنْ يَلقوُا الْمِياهَ الرَّاكِدهُ بِالْحِجارِهِ.
أَنَا لَسْتُ مِمَّن يَبحَثُونَ عَنْ صَيدِ الطيُورِ بِالظلَامِ، لَكِنني أَرْفُضُ الِاسْتِسْلَامَ مُبَكِّرًاً ،أَرْفُضُ الْهَزَائِمَ، وَالْبَقَاءَ بِهَذَا المُحيطِ الضَّيقِ وَكَأَننَا نُرَاهِنُ عَلَى مجهُولٍ، فكلُّ معَارِكِ الْعقلِ الَّتي خُضنَا غِمارهَا كَانتْ اوهامَ لا صِلهُ لنَا بهَا ، وَلكِنَّ دَعوَتِي الصارِخَهُ بِأَن نُعيدَ شَحنَ أَنفُسِنَا بِالحَمَاسِ ،فَيزدادُ ذَلِكَ التَّدفُّقُ الذهنِيُّ المُفجِّرُ لِكلِّ طاقاتِنا النفسيةِ والفِكرِيهِ، فَيَستحوِذُ الإِلهامَ عَلَى كُلِّ شَيء وَان نَأْخذُ حَياتنَا عَلَى محملِ الجدِّ لِنعْرفَ كَيفَ نُصيغُ تَارِيخنَا الجدِيدَ.