"صفقة القرن"… هل يمكن إحياؤها؟!
د.أحمد بطاح
11-11-2024 03:55 PM
لقد شهدت فترة رئاسة ترامب الأولى (2016 - 2020) من ضمن ما شهدته محاولته تصفية القضية الفلسطينية من خلال ما أسماه "صفقة القرن" والتي تمّ في سياقها نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وغضّ النظر عن تنامي الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وقطع المساهمة الأمريكية عن "الأونروا" (حوالي 300 مليون دولار)، بل والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وقد كان منطقه في ذلك أنّ "حل الدولتين" غير ممكن وبالتالي يمكن إنهاء القضية الفلسطينية عن طريق التطبيع مع مزيد من الدول العربية من خلال "الاتفاقيات الإبراهيمية" مع بعض الدول العربية وإرضاء الفلسطينيين بنوع من الحكم الذاتي وبعض المزايا الاقتصادية والحياتية مع تجاهل تام لحقهم في الحرية والاستقلال، وتقرير المصير.
مع تولي ترامب للرئاسة الثانية المنتظرة في 20/01/2025 هل يعود لإحياء محاولته الأولى أم يجترح "مقاربة" جديدة للتعامل مع المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية المُزمنة؟
إنّ استعراض المتغيرات المختلفة التي حدثت مؤخراً في منطقة الشرق الأوسط والعالم تشير بوضوح إلى أنّ من الصعوبة بمكان العودة إلى الطرح المتمثل "بصفقة القرن"، ولعلّ أهم هذه المتغيرات:
أولاً: تصدر القضية الفلسطينية لقضايا العالم من جديد، واعتبار كثير من الدول هذه القضية القضية الأولى الآن على طاولة العالم، وذلك في ضوء ما حدث في السابع من أكتوبر الذي هزّ العالم هزاً وما زالت تداعياته تَتْرى في قطاع غزة، ولبنان وغيرهما. لقد اعتبر ترامب خلال رئاسته الأولى أنّ "حل الدولتين" "غير واقعي" ولكن العالم الآن (بما فيه الولايات المتحدة رسمياً) يعتبر أنّ "حل الدولتين" هو الوحيد الممكن في ضوء عدم إمكانية استمرار الوضع الحالي بما فيه من صراع ودماء وانسداد أفق، وفي ضوء عدم قبول إسرائيل لحل الدولة الديمقراطية الواحدة (أيّ دولة لكل مواطنيها) وذلك بعد تبني إسرائيل لقانون "يهودية الدولة" في عام 2018 والذي يعني ببساطة اعتبار "فلسطين التاريخية" هي "أرض إسرائيل"، وأن حق تقرير المصير هو حق حصري لليهود وليس لغيرهم.
ثانياً: انتقال إسرائيل من وضع دولة تريد أن "تصفّي" القضية الفلسطينية وتقفز إلى العرب من وراء ظهور الفلسطينيين إلى وضع تخوض فيه حرباً "وجودية" (أيّ دفاع عن وجود الدولة ذاتها)، وإذْن فكيف لإسرائيل أن تفعل ذلك وهي تصطدم بواقع أنّ الفلسطينيين يُقدّمون تضحياتٍ جساماً (أكثر من 100,000 شهيد وجريح في قطاع غزة عدا عن الخسائر الأخرى) ولا يرضون بأقل من دولة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؟ وكيف لها أن تفعل ذلك وهي تكافح كما تقول ضد جبهات "سبع" مفتوحة عليها لا تقبل بأقل من منح الفلسطينيين حقوقهم حسب الشرعية الدولية؟
ثالثاً: تمسك الدول العربية بحل الدولتين وعلى رأسها الأردن الذي أدرك مبكراً خطر طرح "صفقة القرن" ليس فقط على الفلسطينيين بل على كيانه السياسي ومصالحه العُليا بحُكم ما فيها من تجاهل للقضايا العالقة والخاصة بالحدود، والمياه، واللاجئين في الأردن، ومن الجدير بالذكر أنه حتى دول "الاتفاقيات الإبراهيمية" ترفض في ضوء ما حصل بعد السابع من أكتوبر من حرب همجية إسرائيلية على غزة أيّ تطوير للعلاقات مع إسرائيل إلّا بعد تنفيذ "حل الدولتين"، وحتى السعودية (الجائزة الكُبرى لما لها من ثقل عربي وإسلامي ودولي) تشترط على إسرائيل قبل التطبيع معها السير قُدما ً في موضوع "حل الدولتين" لإقرار السلام نهائياً في هذه المنطقة المضطربة.
رابعاً: تغير الموقف الدولي بوضوح لصالح القضية الفلسطينية والعمل على إنصاف الشعب الفلسطيني وتصويب "المظلُمة" التاريخية التي تعرّض لها، وقد تم التعبير عن هذا الموقف الدولي من خلال مواقف الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أوصت بأغلبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذلك فضلاً عن مواقف الاتحاد الأوروبي (اعترف بعض دوله فعلاً بالدولة الفلسطينية كإسبانيا، وسلوفينيا، والنرويج) وغيرها، والواقع أنّ هذا الموقف الدولي لم يتم التعبير عنه رسمياً فقط بل امتد إلى المنظمات الدولية الوازنة كمحكمة العدل الدولية التي تحاكم إسرائيل حالياً بتهمه أم الجرائم وهي جريمة الإبادة الجماعية، ومحكمة الجنايات الدولية التي أوصى مدعيها العام باتهام رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير دفاعه السابق جالانت بأنهما "مجرما حرب"، ويجب أن لا ننسى في هذا السياق المظاهرات الصاخبة في عواصم العالم ومدنه الكبرى، وكذلك مظاهرات الطلبة في الجامعات المرموقة (حتى في الولايات المتحدة) والتي تطالب كلها بوقف الحرب التدميرية على قطاع غزة المنكوب، وعلى منح الفلسطينيين حقوقهم.
وختاماً، فإن فرصة ترامب لتحقيق ما أراده في عهدته الأولى من تطبيق "صفقه القرن" قد تضاءلت فعلاً فإسرائيل تحت النار الآن رغم التدمير الذي تنشره في الأراضي الفلسطينية (غزة والضفة الغربية)، وفي لبنان، وأحياناً على مستوى الإقليم، والأردن أصبح أكثر خبرة وحِنكة في التعامل مع هذا الموضوع وهو لن يتهاون فيه كما فعل سابقاً بالنظر إلى ما يُشكّله من خطر عليه وعلى القضية الفلسطينية التي تعنيه أكثر من أيّ بلدٍ آخر، والدول العربية لا تستطيع -حتى لو أرادت- أن تتجاهل حقوق الفلسطينيين، وتوقهم إلى نيل حريتهم واستقلالهم، بل وكذلك دول العالم حيث أصبحت أكثر إدراكاً ووعياً "بالمأساة" الفلسطينية المستمرة منذ (75) عاماً وضرورة التعامل معها حسب القانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبادئ حقوق الإنسان.
إنّ ما سبق لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن ترامب سوف يقف في صف الفلسطينيين فهو ومن بين كل الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه (46 حتى الآن) قدّم لإسرائيل ما لم تكن تحلم به، ولكنه في النهاية سياسي يستطيع قراءَة المتغيرات؟ ومن المرجح أن يدرك أن ما اقترحه في فترته الأولى لم يعد قابلاً للتحقيق، ولذا فإنّ عليه وعلى إدارته (Trump administration) أن تقترح حلولاً (أو صفقات أخرى!) تناسب الأوضاع الحالية، وتتفاعل مع المتغيرات المستجدة.