صاحب الفكر ليس مجرد حامل لأفكارٍ تلامس السطح ثم تنطفئ؛ بل هو إنسان حقيقي، يعيش الحياة بكل ما فيها، فصقلته التجارب، وغرست فيه الأيام معاني لا يفهمها إلا من تذوق شقاء الطريق.
انه إنسان حمل في قلبه ذاكرةً ثقيلة، وذكريات علمته أن الحياة لا تهب شيئًا بالمجان، وأن كل خطوة في دروبها تترك أثرًا لا يُمحى، عاش نقص الزاد ففهم قيمة العطاء، واختبرته الغربة والحنين، وعرف الألم وتعلم معنى القوة والصبر.
وان تجاعيد وجهه، ولمعة عينيه، والشرايين البارزة في كفيه، كلُّها حكايات صامتة وخارطة مرسومة تروي ما تخفيه الكلمات، او يخفى على الكلمات .
هذا الإنسان، حين يتكلم، تتدفق كلماته من عمق التجربة الصافية، محمّلة بصدقٍ لا يعرفه إلا من عركته الأيام، كلماته ليست عابرة، بل تصبغها الحياة بلون الحزن النبيل، او الألم الثقيل او الامل الجميل، والرؤية الثاقبة التي تأتي بعد معاناة طويلة،
فتصبح هذه كلها صدى لحكمة اكتسبت وزنها من ندوب الأيام، لا يكتب ليُبهر، ولا يتحدث ليتفاخر؛ بل لتخرج كلماته من عمق المعاناة، لتحمل معها علمًا، وأدبًا، وثقافةً اكتسبها من تراكم الحكايات وتجارب الحياة.
وأمام هؤلاء، نجد التافهين، الذين يعيشون تحت أضواء زائفة، ويزيفون القيم بعلاقات سطحية، ويوهمون الآخرين بقوة لا يملكوها هؤلاء، الذين يتسلقون إلى الواجهة دون أدبٍ حقيقي، ودون علم له اعتباره او ثقافةٍ صافية،
لا يدركون عمق لغتهم ولا يعرفون أدبها، حتى إذا ما وقفوا أمام نصٍ عربيٍّ أصيل، أظهر عجزهم، وجاءت الكلمات أكبر منهم، وكأنها تعيدهم إلى حجمهم الطبيعي. ، وهو اصغر من الكلمات وادنى من العبارات .
أما صاحب الفكر، فهو من يعرف أن اللغة أمانة، وأن الكلمة لها حرمتها وتأثيرها ، وأن الأدب الحقيقي لا ينبت إلا في تربة التجارب العميقة، وأن القارئ هو من يدرك بفطرته الفرق بين عمقٍ صادق وفقاعات زائفة.
صاحب الفكر، ليس فقط من يحمل فكرةً أو يتأمل الحياة من بعيد؛ إنه إنسان عاش قصته بكل ما فيها من تفاصيل مُرهقة، هو ذلك القلب المفعم بالمشاعر التي لم تُكتسب من فراغ، بل وُلدت من رحم الحزن والمعاناة وشدائد الأيام.
صاحب الفكر، بعمق تجربته واتساع رؤيته، يكون راقيًا حتى في حزنه، نبيلًا حتى في ألمه، نقيًّا حتى في فرحه، ضحكته صافية لا يزيّنها تصنُّع، ولا يجلبها على حساب جراح الآخرين؛ بل تُشرق من قلبٍ يعرف جيدًا قيمة الحزن ويحترمه، لأنه عاشه وتجرّع مرارته.
وهذا الإنسان الذي صقلته التجربة، جمع في قلبه ثروة لا تُشترى ولا تُباع؛ إنه غنيٌّ بمعرفته، زاهدٌ في بريق الدنيا الزائف، موفقٌ في مسالكه؛ فالحياة تفتح له دروبها، لأن خطواته ثابتة، ولأنه خاض معارك الحياة بكرامة وشرفٍ وأمانة.
وأمام هذه الأصالة، يقف التافه والسخيف كخيالٍ لا ظلّ له، يتلون ليحقق ما لا يستحق، يسعى ليصنع لنفسه مكانةً، ولو على حساب جراح الآخرين وأحزانهم، يعيش في هامش الحياة، يأخذ منها ما تخلّى عنه أصحاب الحق، ويتبع ذيلها دون أن يعي عمقها أو يدرك معانيها. هذا التافه، في نهاية المطاف، يظل بلا محتوى، مجرد قشرةٍ فارغة، ذليل يتبدد مع الرياح حين تأتي لحظة الحقيقة.
أما صاحب الفكر، فيبقى نوره مشعًّا، صوته هادئًا لكنه يملأ الأرجاء، كلماته تُحترم لأنها عميقة كعمق حياته، فيكسب احترام الناس وحبهم، ويترك أثرًا لا يُمحى، ولا تطويه الأيام..
* آية أحمد عويدي العبادي "أم الحارث"..