النظام التعليمي الأردني في ظل الرؤية الملكية
النائب الدكتور شاهر شطناوي
10-11-2024 09:13 PM
في معرض ما حمله كتاب التكليف السامي الذي وجهه جلالة الملك عبدالله الثاني لدولة الدكتور جعفر حسان نجد أن جلالة الملك قد أولى اهتماما بالغا لقطاع التعليم، بصفته قطاعا حيويا ومحركا أساسيا في بناء المجتمع ونهضة الدولة، فالتعليم هو الوسيلة التي من خلالها يتم تشكيل العقل الجمعي للأمة، إذ لا تنحصر مهمة التعليم في نقل المعرفة، بل هو عملية مستمرة لصياغة عقل المواطن ليتوافق مع متطلبات السوق والمجتمع، ولا شك أننا نعاني من فجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق، فهي ليست مجرد إشكالية في النظام التعليمي، بل هي تحدٍ ثقافي ونفسي يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة التفكير بشأن التعليم في الأردن.
وفي هذا السياق، أشار جلالته إلى ضرورة تطبيق نموذج "النظام المزدوج" الذي يمزج بين التعليم الأكاديمي والمهني منذ المراحل الثانوية، حيث يتم توجيه الطلاب وفقًا لمهاراتهم واهتماماتهم، من خلال دراستهم للمواد الأكاديمية جنبًا إلى جنب مع التدريب العملي في شركات ومؤسسات محلية، ولا شك أن الحكومة قد بادرت في تطبيق هذا النظام الذي أشار إليه جلالته في كتاب تكليفه لهذه الحكومة، وهنا يأتي توجيه جلالته في سياق تعزيز التجربة والسعي إلى إنجاحها وإنضاجها بشكل حقيقي، فالنظام التعليمي المزدوج BTEC (Business and Technology Education Council) وهو نظام تعليمي بريطاني يقدم مؤهلات مهنية وتعليمية مصممة لتزويد الطلاب بالمهارات العملية والمعرفة النظرية المطلوبة للعمل أو لمتابعة التعليم العالي، يعد نموذجا يقدم بديلًا عمليًا للدراسة الأكاديمية التقليدية، ويُعنى بالجانب التطبيقي بشكل يفوق الجانب النظري، ما يجعله ملائمًا جدًا لاحتياجات سوق العمل المتغيرة.
ومن ناحية أخرى، تُعد النقلة التي اتبعتها وزارة التربية والتعليم في العامين الأخيرين نحو التعليم التقني والمهني خطوة ضرورية في مواجهة تحديات التطور التكنولوجي واحتياجات سوق العمل، وتشير هذه النقلة إلى أن المناهج التعليمية في الأردن ينبغي أن تتواءم باستمرار مع التطورات العالمية، لتزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات المطلوبة.
ولا بد لي في هذا السياق أن أقتبس من كتاب التكليف السامي قول جلالته: "ومن الضروري التركيز على أولويات تدريب وتأهيل المعلمين وتطوير المناهج والتوسع في استخدام التقنيات وأنظمة التدريس الذكية." وهنا، نجد أن جلالته يرسم خارطة الوعي للحكومة لتطبيق نظام التعليم المزدوج BTEC، إذ إن النجاح في إدخال هذا النظام يستلزم برنامجًا شاملًا لتدريب المعلمين وتأهيلهم للتعامل مع أساليب التدريس المزدوج، الذي يجمع بين الجانب النظري والمهارات العملية، كما يتطلب النظام وضع آليات متطورة لتقييم الأداء، تشمل تقييم التجربة التعليمية بصفة عامة، بهدف قياس فاعليتها وتحسينها باستمرار، وتقييم المعلمين لضمان توافق مهاراتهم مع المتطلبات الجديدة، وكذلك تقييم التحصيل العلمي والمهني للطلاب للتأكد من تلبيتهم للمعايير الأكاديمية والعملية التي يحتاجها سوق العمل، وفي هذا السياق، يصبح من الضروري أيضًا إجراء تقويم دوري للمناهج لتكون متوائمة مع احتياجات البرنامج وتطوراته، ما يسهم في تحقيق توازن فعّال بين المعرفة الأكاديمية والمهارات التطبيقية، ويضع الأردن في طليعة الدول التي تعتمد على تعليم مرن يلبي احتياجات العصر ويسهم في التنمية المستدامة.
وفي نفس السياق، فإن من الضروري لتحقيق نجاح هذا النظام توفير شراكات فعالة بين وزارة التربية والتعليم والقطاع الخاص، وذلك لتأمين فرص تدريبية عملية داخل الشركات المحلية، وتحفيز الطلاب على الانخراط في هذا النظام من خلال تقديم برامج دعم مالي أو ضمانات لتوظيف الخريجين، مما يعزز من جاذبية النظام الجديد ويساهم في تحقيق أهدافه.
وفي سياق رؤية جلالته لتحسين النظام التعليمي، طرح نموذج التعلم المدمج الذي يمزج بين التعليم التقليدي والتعليم الرقمي، باعتباره أحد الحلول الذكية لتعزيز جودة التعليم في الأردن، ويتيح التعليم المدمج الفرصة لتقليل الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، من خلال إتاحة فرص تعلم عالية الجودة للطلاب في المناطق النائية عبر الإنترنت، ويتطلب ذلك استثمارًا في البنية التحتية الرقمية للمدارس، خصوصًا في المناطق الريفية، إلى جانب تطوير منصات تعلم إلكترونية تتضمن المناهج الدراسية بأسلوب تفاعلي يشجع على التفكير النقدي والتحليل، مما يعزز مهارات الطلاب ويواكب تطلعات سوق العمل.
أما من ناحية إعداد المعلمين وتطوير مهاراتهم، فإن تجهيزهم ليكونوا قادرين على مواكبة التطورات التكنولوجية بات أمرًا بالغ الأهمية لنجاح العملية التعليمية، ويتطلب هذا توفير برامج تدريب مستمرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بحيث يتم تخصيص خطط تدريبية فردية لكل معلم وفقًا لاحتياجاته وتحدياته في الصف، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم تطبيقات ذكية لمراقبة أداء المعلمين وتقديم ملاحظات فورية حول أساليب التدريس والتفاعل مع الطلاب، وتشجيع المعلمين على استخدام التكنولوجيا في التدريس، من خلال تقديم حوافز مالية أو ترقيات مهنية تدعم التوجه التكنولوجي.
بالإضافة إلى ذلك، تجسد الرؤية الملكية المؤسسات التعليمية كحاضنات للقيم الوطنية والاجتماعية، حيث تترسخ من خلالها مسؤولية الدولة المدنية التي تقوم على سيادة القانون واحترامه، فالتعليم من هذا المنظور ليس وسيلة لبناء المهارات فحسب، بل هو أداة لبناء هوية جماعية وتعزيز الفضائل المدنية، كالعمل التطوعي والمشاركة الفعالة، وبذلك يؤكد جلالته على سيادة القانون كركيزة أساسية لدولة مدنية مستدامة، تعزز الاستقرار الأخلاقي وتحقق تماسكًا مجتمعيًا يصب في نهضة شاملة ومستدامة للأردن، ويحقق رؤية الملك نحو بناء مجتمعٍ مستقر يشارك فيه الجميع، ويسهم في التنمية التي تتجاوز الأبعاد الاقتصادية إلى القيم الإنسانية والأخلاقية.