لم يكن فصل الخريف عابراً، ولا مرحلة عفوية في حياة الشجر والبشر، مع ما يرافق جمالية ألوانه وحفيف أوراق شجره وتساقطها، ما بين برتقالية وصفراء وخضراء، تذبل وتهوي ببطء وهدوء، تتراقص أثناء نزولها لتعانق الأرض وتستقر هناك. وكم يروق لنا صوت طقطقة تلك الأوراق الجافة حين نمشي فوقها بألوانها وأشكالها.
ويأخذنا شكل الغيوم حين تبدأ وتتجمع بألوانها الفاتحة والداكنة فتصطف حائرة في السماء، تحركها نسمات عذبة تجمعها تارة وتفرقها أخرى، إنه الجانب الظاهر، أما الجانب الخفي فإنه أعظم وأعمق.
إن الممعن في فصل الخريف بتفاصيله ليدرك عظمة الخالق سبحانه وتعالى في تدبير الكون ودقته وعظيم صنعه في دورة حياة مخلوقاته كلها، ففيه تكمن نهاية لتتهيأ بداية جديدة، وروح جديدة، فلولا الخريف لما حل الشتاء بنعمه وخيراته وفيض عطائه، ولولا سقوط تلك الأوراق لما بدت أوراقاً جديدة ولما أزهرت الأشجار من جديد وأينعت وأثمرت وآتت أكلها. فالخريف بداية وليس نهاية كما يراه أو يظنه البعض، إذ يعتقدون فيه الخسارة والسقوط واليأس والخاتمة.
وهكذا هو حال البشر، يمرون بمراحل عديدة، ومواقف كثيرة، نجاح وفشل، إيناع وسقوط، ازدهار وتجرد، عثرات ومسرات، مراحل مختلفة منها الإيجابي ومنها السلبي، منها ما يجعلنا نحلق عالياً في الأفق، ومنها ما يجعلنا نرتطم بالأسفل، تماما كأوراق شجر الخريف.
لكن، هل السقوط لا يعني إلاّ الخسارة وإشارة للنهاية؟
في إدراك الناجحين، السقوط فرصة لإعادة حساباتهم وليس الوقوف عند ما فقدوه، وفي التعثر والوقوع إنذار ليعيدوا ترتيب أفكارهم وإحكام خططهم ولملمة شتاتهم، وإشارة للتجديد وإعادة البناء، فيولد الأمل إيذانا ببدء المحاولة وهكذا وصولاً للنجاح.
من هنا تؤخذ الحكمة.. فلا تجعل اليأس يتسلل لداخلك ويستوطنك ويهزم إرادتك وقوتك كما يأكل الصدأ الحديد، فلا عدو أكثر خطورة على النفس من الإحباط واليأس.
انهض من مقامك فثمة بارقة أمل تنتظرك، وابحث عن مخرج النجاة وطوقها، وفكر فيما هو آت، ولا تطل الوقوف حزنا على ما فات، وواجه سقوطك وسببه بجرأة ووعي مختلف، ستجد أن باستطاعتك بناء سلمٍ للصعود مرة أخرى لتقف وتبدأ من جديد.
اطرد اليأس بكل ما أوتيت من قوة وإرادة، واصرخ في وجهه، ولا تجعل له حيزاً بداخلك، ولا تحكم على نفسك بالفشل والانتهاء، فهذا ليس من صفات المؤمن السويّ، فاصبر، وحاول لعل الله يّحدث بعد ذلك أمرا، فربما يكون بعد سقوطك الفوز العظيم، فهذا سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام تسلم مقاليد خزائن الأرض، بعد أن (غاب) في غياهب الجب!!
وهذا سيدنا يعقوب عليه الصلاة والسلام لم ييأس بعد فقد ابنه يوسف، وظل أمله بالله بأن يعود له ولده، ويحث أبناءه على عدم اليأس وفقد الأمل والمحاولة، “يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ". وظل يشم رائحة الفرج برغم بعد المسافات " إني لأجد ريح يوسف" وأعاد الله له ابنه يوسف وقد مكّن له في الأرض.
فكم من سقوط بنظرنا كان شرارة النجاح، وبداية الانطلاق، فثق أن ربيعك قادم لا محالة، وستدرك حينها أن تساقط أوراق الخريف ما هي إلاّ إعلانٌ لقدوم الشتاء، وما الشتاء إلاّ طريقٌ للزهر والثمر والعطاء.