الفساد ليس قضية أردنية فقط، بل سلوك إداري وسياسي بشري. لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو القدرة على امتلاك آليات قانونية وإدارية وأخلاقية تردع الفاسد وتزرع لديه الخوف، وإذا ما قرر في لحظة أن يتجاوز القانون فهناك العقوبة الرادعة والقضاء الذي يضع الأمور في نصابها، إضافة الى الإرادة السياسية التي تجعل محاربة الفساد نهجا وليس موسما، وتمنع الفاسد من احتلال أي موقع متقدم، وتحاسب المسؤول الذي يخرج على الأصول الإدارية والقانونية.
لكن محاربة الفساد ليست أمرا سهلا، لأن الفاسدين لديهم أدواتهم في التحايل على القانون، ولديهم القدرة على تلميع أنفسهم وممارسة الغسيل السياسي والشعبي لمسيرتهم، وإعادة إنتاج صورهم بأدوات سياسية وإعلامية مختلفة. والفاسد يستفيد من الحديث العام البعيد عن التفاصيل وغير المستند إلى حقائق وإثباتات، لأن هذا يجعل الكل متهما.
لكن التعميم وتوزيع الاتهامات في كل الاتجاهات، وقذف الحديث من دون معلومة موثقة، يترك آثارا على الدولة وصورتها، ويجعل من يسمع الكلام العشوائي يشعر أنه يدخل إلى دولة كل من فيها من المسؤولين والمواطنين أصحاب سوابق ومجرمون وحرامية، يتربصون بكل قرش وكل زائر، ويأكلون أي استثمار، وينهبون موازنة بلدهم وجيوب ضيوفهم. وهذا يعني فاتورة كبيرة على الدولة في حاضرها ومستقبلها، كما أنه يجعل المواطن العادي يفقد ثقته بكل شيء. ونظلم مجتمعنا حين نفترض أن كل مسؤول حرامي، وأنه لا وجود لأشخاص محترمين ولا قانون ولا قضاء.
ما قاله الملك في رسالته قبل يومين للحكومة يفرض علينا جميعا امتلاك منهجية واضحة لإدارة ملف الفساد، تقوم على أمور منها:
*التوقف عن رمي الاتهامات العامة غير الموثقة، واعتماد المعلومة والحقائق عند توجيه أي تهمة أو الحديث في أي ملف.
*أن يكون القضاء هو العنوان الذي نضع بين يديه أي ملف. فمن كان هدفه محاربة الفساد فليس معنيا بالأضواء، وبالتالي فإن العنوان هو القضاء. وحتى ما يتم طرحه في الإعلام يجب أن يكون بالوثائق حتى نمنع التشهير واغتيال الشخصية والإساءة للأبرياء.
*أما الجهات المسؤولة، فإن واجبها أن تضع أمام المواطن كل الحقائق، وأن تتعامل بجدية مع أي ملف، وأن لا تمارس أي مماطلة في معالجة أي ملف، حتى لا تترك أي مجال لأي أقاويل، فالمعلومة هي عدو الإشاعات.
فقضية كبرى مثل ملف السجين خالد شاهين تحولت إلى ملف سياسي، ودفعت الدولة ثمنه كثيرا، وكل لحظة كانت تمر من دون حسم كانت تتحول إلى عبء على الدولة. ولعل ما تم أمس كان أمرا إيجابيا في وقف الجدل وتوفير الثمن، فالمواطن يحتاج أن تكون كل المعلومات بين يديه، وأن يرى إجراءات حاسمة لمعالجة أي خلل.
*أما من يمارس الافتراء، فلا بد من تشريع يردعه ويجعل لكل تهمة بلا سند أو توثيق ثمنا، لأننا في زمن حرية التعبير وتعدد المنابر السياسية لا يجوز أن نجلس ونرسل الاتهامات كما نشاء من دون أدلة أو معلومات موثقة، لأن هذا فساد يخدم الفاسد الحقيقي، ويجعل كل الدولة تدفع الثمن.
جزء من الإصلاح أن نمتلك منهجية لإدارة ملف مكافحة الفساد، فهذه هي ضمانة محاربة الفساد، ففرق كبير بين مكافحة الفساد والحديث عنه.
(الغد)