زيدان تكتب: هستيريا الرأي الواحد .. حين يُخنق التنوع وتغيب الأصوات المتعددة
د. ربا زيدان
07-11-2024 12:01 AM
في زمن الانفتاح الرقمي، حيث تتدفق المعلومات بلا حدود وتتكاثر المنصات التي تتيح لكل فرد أن يعبّر عن رأيه، تبدو ظاهرة هستيريا الرأي الواحد كتناقض محيّر. كيف لزمان بات من المفترض أن يزدهر بتنوع الآراء والأفكار أن يتحول إلى ساحة تسيطر عليها عقلية الإقصاء ورفض الاختلاف؟
اليوم، نجد في المجتمعات، حتى التي تدّعي التقدّم منها، انحرافاً خطيراً نحو فرض الرأي الواحد. يعمد البعض، خصوصاً من الشخصيات المؤثرة وقادة الرأي، إلى فرض آرائهم كحقيقة مطلقة، مع تجاهل أو رفض للآراء المختلفة. هذا الميل نحو التماثل الفكري لا يكتفي بمهاجمة الآراء الأخرى، بل يسعى إلى طمسها، مما يخلق حالة من الرتابة الفكرية ويعرّض المجتمع لآفة الجمود.
تكمن خطورة هذه الظاهرة في أن الأفراد يصبحون أسرى رؤية واحدة لا تعترف بالتنوع ولا تتيح مجالاً للنقاش. عندما يُحاصر الجميع داخل أفكار ضيقة ولا يُسمح لهم بالتفكير الحر، فإن المجتمع ككل يفتقد للحيوية الفكرية والقدرة على التطور. فالرأي الواحد يفتقر إلى التعددية التي تُثري الأفكار وتخلق الحلول، ما يجعل التجمعات البشرية بأنواعها عرضة للأزمات ومحدودية التفكير.
إن اختزال الحقيقة في أسلوب تفكير دون غيره يعطّل التقدم الحضري والثقافي ويحد من الإبداع. فأي مجتمع صحي يحتاج إلى فسيفساء متنوعة من الأفكار والأصوات والتوجهات التي تتفاعل وتتشكلّ وتعبد التشكلّ مراراً وتكراراً ، فهذه الديناميكية هي ما تُولّد حلولاً جديدة ومقاربات فعالة للمشكلات. وحين يغيب هذا التنوع، تصبح المجتمعات عرضة للتخلف والتقوقع حول أفكار عقيمة غير قادرة على مواكبة التغيير.
ومن بين المخاطر التي تترتب أيضاً على غياب التنوع في الآراء، وترهيب أصحاب الفكر المبتكر والثوري ،تبرز مشكلة تأثير التلاعب والتوجيه المتعمّد للرأي العام.
في غياب الأصوات الناقدة، تصبح وسائل الإعلام أو الشخصيات المؤثرة التي تدفع برأي واحد أقرب إلى أداة تلاعب تصنع وتوجّه القناعات الجماهيرية، مما يهدد بانتشار مفاهيم مضللة قد تصبح سائدة دون وجود معارضة واعية تفنّدها وتفككّ ضعفها.
لطالما كان قبول الاختلاف أساس تطور المجتمعات وبناء الثقافات العريقة والوازنة .
ففي بيئةٍ ترفض التنوع، يصبح النقد البنّاء والابتكار أمراً صعباً، ويصبح الأفراد رهائن لنمط تفكير محدود لا يقبل النقد ولا يدرك قيمة التنوع.
لقد أظهرت تجارب تاريخية عديدة أن المجتمعات التي تستجيب لهستيريا الرأي الواحد غالباً ما تنزلق نحو التخلف، وتفقد القدرة على مواكبة التغييرات والتحديات. بينما على العكس، فإن المجتمعات التي تحتضن الأفكار المتعددة تكون أكثر استعداداً للإبداع والتجديد، وأكثر مرونة في التعامل مع التحديات.
إن محاربة هستيريا الرأي الواحد تتطلب من الجميع، وليس فقط الإعلام، الإيمان بأهمية التعددية وتقبّل الأفكار الآخر المختلف قليلا أو كثيرا ، فبدون هذا النّفس التقدمّي، نخسر الكثير من الفرص لتحقيق نهضة فكرية ومجتمعية حقيقية.
إن تعدد الآراء هو ما يجعل المجتمعات قادرة على مواجهة التحديات بمرونة وإبداع، فالحقيقة لا يمكن أن تختزل في رأي واحد؛ بل هي نتاج تلاقح الأفكار وتفاعل الرؤى المختلفة.
إن السبيل لبناء مجتمعات متجددة وذات روح أصيلة يبدأ عبر تعزيز احترام الآخر ، ذاك الذي يشاركنا الثقافة والمكان أو يبتعد عنا جغرافيا ولعلّه فكريا ، فلكلّ منا تجربته وحمولته من المعتقدات التي تعيقه أحيانا عن الرؤية بوضوح أو تمُكنه لربما إن جاوز عقده النفسيةوالاجتماغية الموروثة من تقدير الرأي المختلف، ودعم ثقافة الحوار المنتج.
فالمجتمع الذي يتسع للأفكار المتعددة هو مجتمع قادر على النمو، وليس ساحةً للتناحر وتصفية الحسابات الشخصية بدعوى الولاء لفكرة دون غيرها مُكفّرين كل لونٍ لا نراه بعدسة أعيننا القاصرة .