الأمن المائي والأمن الغذائي رؤية ملكية جسدها كتاب التكليف السامي
النائب الدكتور شاهر شطناوي
03-11-2024 06:24 PM
لقد حمل كتاب التكليف السامي الذي وجهه جلالة الملك عبدالله الثاني لدولة الدكتور جعفر حسان محاور قطاعية شملت كافة القطاعات الحياتية، إلا أننا نقف اليوم أمام محورين يعتبران غاية في الأهمية، فأحدهما بمثابة العصب والثاني القلب النابض للحياة الأردنية، حيث نرى معالجة لتحديين وجوديين للأردن وللعالم المعاصر ككل وهما الأمن المائي والأمن الغذائي، هذان التحديان مرتبطان بشكل وثيق بمفاهيم تتعلق بالبقاء والعدالة البيئية والاستدامة والاعتماد على الذات، وعند تأمل هذه الفقرة نستطيع الكشف عن أبعاد أعمق تتجاوز الحلول التقنية إلى الأسئلة المتعلقة بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وعلاقة المجتمع بالدولة.
فالأمن المائي لا يتعلق فقط بتوفير المياه في الأنابيب، بل إنه يتعلق برؤية الحق الطبيعي والعدالة في توزيع الموارد، ومشروع الناقل الوطني للمياه كما يُقدمه كتاب التكليف، يتجاوز مجرد كونه مشروعًا هندسيًا إلى كونه جزءًا من تحقيق العدالة بين الأجيال، فهو بمثابة جهد كبير لضمان مستقبل مائي مستدام في ظل أزمات مناخية عالمية تتزايد حدة، فالسيادة المائية تتعلق بالتحكم في الموارد الطبيعية وإدارة استخدامها بشكل عادل ومستدام، وفي إطار الرؤية البيئية، تعتبر المياه ملكًا عامًا، تتطلب إدارة رشيدة تضمن توزيعها بشكل عادل وتجنب الفاقد منها، إذ يجب فهم مشروع الناقل الوطني للمياه كجزء من استراتيجية أعمق تسعى إلى تعزيز السيادة الوطنية في مواجهة تحديات تغير المناخ وشح الموارد الطبيعية.
وبالنظر إلى الاستدامة من خلال كتاب التكليف السامي، فهي ليست مجرد استدامة اقتصادية، بل استدامة بيئية وأخلاقية، فهي تعني ضمان أن تكون للأجيال المقبلة نفس الحقوق في الحصول على موارد مائية كافية، وهو ما يتطلب العمل على تحسين البنية التحتية، وتغيير نمط الحياة والسلوك البشري، والرؤية البيئية العميقة التي تتطلب التوازن بين احتياجات الإنسان وحماية البيئة، تدعو إلى تبني تكنولوجيات مائية ذكية، مثل تقنيات إعادة تدوير المياه وتحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة، إذ لا بد من الحد من الاعتداءات على خطوط المياه ومحاكمة المعتدين، وهذا يعكس ضرورة تحقيق العدالة في توزيع الموارد، مما يجعلنا نقف أمام الحاجة إلى نظام قانوني قوي، ولكنه يتطلب أيضًا بناء وعي مجتمعي حول أهمية الحفاظ على الموارد المائية، وفي هذا السياق، يمكن استلهام الرؤية السياسية والاجتماعية لجلالته لتأكيد ضرورة خلق عقد اجتماعي جديد بين المواطنين والدولة، يقوم على الالتزام المشترك بالحفاظ على الموارد.
وفي سياق الأمن الغذائي كما يُطرح في هذه الفقرة من كتاب التكليف السامي فإننا نرى أنه ليس مجرد مسألة إنتاج وتوفير الغذاء، بل هو رؤية فلسفية تعتمد على الكفاية والاعتماد على الذات في ظل عالم غير مستقر اقتصاديًا وسياسيًا، فخلال مواجهة التقلبات في أسعار الغذاء على مستوى العالم، تعتمد هذه الرؤية على تطوير نظام زراعي ذاتي الاكتفاء، بحيث لا يبقى الأردن رهينا لتغيرات الأسواق العالمية أو الصدمات الخارجية، والكفاية لا تنحصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل تمتد إلى تحقيق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك بطريقة تحترم البيئة، وهذه الرؤية تدعو إلى إعادة التفكير في نمط الإنتاج الزراعي، بما يتضمنه من تكثيف الاستثمارات في الزراعة المستدامة واستخدام التكنولوجيا الحديثة لزيادة الإنتاجية الزراعية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية.
وفي نفس السياق فإنه يمكن فهم تطوير الأمن الغذائي في الأردن على أنه جزء من مشروع أكبر لإعادة هيكلة النظم الزراعية القائمة، وهذا يتطلب تحولا نحو الزراعة الذكية التي تعتمد على البيانات والتكنولوجيا، والتي يمكن أن تزيد من كفاءة استخدام المياه وتحد من التأثيرات البيئية السلبية، ويتطلب أيضًا الانتقال من النمط الزراعي التقليدي إلى أنظمة أكثر ابتكارًا مثل الزراعة المائية والرأسية، ما يتيح إنتاج غذاء أكثر بموارد أقل، ومن جهةٍ أخرى فإن استدامة الجهود في تعزيز الأمن الغذائي تستند على أطر مؤسسية فعالة وقوية، فنجاح أي نظام اقتصادي أو بيئي يرتبط بمؤسساته، وهذا يتطلب تعزيز الأمن الغذائي الذي يحتاج إلى نظام مؤسسي قوي يتكامل مع السياسات الحكومية، ويعزز التعاون بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، إذ يجب أن تُبنى هذه المؤسسات على مبادئ الشفافية والمحاسبة لتضمن توزيع الموارد الزراعية بشكل عادل ومستدام، إذ لا بد أن تكون الرؤية المستقبلية للأردن في مجال الأمن الغذائي قائمة على الابتكار، من خلال دخول الزراعة الذكية واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الإنتاج الزراعي وتطوير نظم زراعية تعتمد على بيانات الطقس والتربة، مما يسهم في تعزيز الإنتاج المحلي، إضافةً إلى ذلك، فإنه من الممكن الاستثمار في زراعة محاصيل جديدة تتحمل الظروف المناخية القاسية.
وعليه فإن الرؤية المستقبلية للزراعة الأردنية يجب أن تكون مبنية على مبدأ التوازن البيئي، من خلال الاعتماد على الزراعة العضوية والمستدامة، مما يعزز من قدرة الأردن على تحقيق الاكتفاء الذاتي، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال المقبلة، إذ يمكن للحكومة أن تلعب دورًا رئيسيًا في دعم هذا التحول من خلال تقديم الحوافز للمزارعين الذين يتبنون تقنيات زراعية مستدامة.
وأخيرا فإن الأردن بحاجة إلى أن يسعى لتكوين تحالفات إقليمية ودولية لتعزيز إدارة الموارد المائية المشتركة، فالتعاون الإقليمي في إدارة الأحواض المائية المشتركة والتكنولوجيا الزراعية يمكن أن يكون جزءًا من الحلول المستقبلية، كما يمكن تطوير مبادرات مشتركة مع الدول المجاورة مثل تطوير مشاريع لتحلية المياه أو بناء منشآت طاقة شمسية مشتركة لتشغيلها.