أعلن مؤخرا فوز ثلاثة اقتصاديين (دارون أشيموغلو وسايمون جونسون من جامعة إم آي تـي، وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو، الينوي) بجائزة نوبل للاقتصاد عن العام 2024، لدراساتهم حول كيفية تشكيل المؤسسات واثرها في إثراء الأمم.
يناقش كتاب "لماذا تفشل الأمم - أصول السلطة والازدهار والفقر"، لأشيموغلو وروبنسون، مجموعة من القضايا المتعلقة بالفقر والعوامل التي تعرقل التنمية، ودورها في إضعاف الدول والمجتمعات، ودور الأنظمة الحاكمة وسياساتها في هذا الأمر، كما يناقش في المقابل كيفية تحقيق الازدهار والرخاء، وأهمية الإصلاح المؤسسي في تحقيق ذلك. ومن بين الأمثلة المطروحة (وهي كثيرة وتغطي مناطق من جنوب أمريكا وآسيا والشرق الأوسط)، مدينة نوغاليس (وهي مثال أعجبت به كثيرا حين قرأت الكتاب)، لذلك سأتحدث عنه فقط، ورغم أن كتاب "القوة والتقدم: كفاحنا الذي دام ألف عام حول التكنولوجيا والازدهار"، لأاشيموغلو وجونسون، كتاب أيضا جدير بالقراءة والتفهم، لدور المؤسسات في التنمية.
إن مدينة نوغاليس، وهي مدينة منقسمة على جانبي الحدود في نوغاليس بولاية أريزونا الأمريكية، ومدينة نوغاليس بولاية سونورا في المكسيك، تمثل التفاوت الاقتصادي العميق بين الأمم والعوامل المؤسسية التي تدفع هذا التفاوت حيث يقارن الكتاب بين كيفية عيش الناس في كلا الجانبين. فالذين يعيشون على الجانب الأميركي يكسبون ثلاثة أضعاف ما يكسبه الذين يعيشون على الجانب المكسيكي مقابل أداء عمل مماثل. كما أنهم أكثر حظاً في التعليم والصحة. وعلى النقيض من نظرائهم عبر الحدود، فإنهم يثقون في حكومتهم لتمثيلهم ديمقراطياً وتزويدهم بالخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والطرق الآمنة والنظام القانوني العادل.
مما يعني أن نوغاليس بولاية أريزونا تتمتع بمستوى معيشة أعلى كثيراً من نوغاليس بولاية سونورا. ومع ذلك، فإنهما يشتركان في نفس التاريخ والثقافة والجغرافيا، وبالتالي لا يمكن لأي من هذه العوامل أن يفسر الاختلافات بينهما. ولهذا السبب سلط أسيموجلو وروبنسون الضوء على المؤسسات السياسية والاقتصادية والحوافز التي تخلقها: فالنظام الحكومي في الولايات المتحدة يمنح مواطنيها فرصاً سياسية واقتصادية لا يمنحها لهم نظام الحكم في المكسيك.
الواقع أن مثال نوغاليس، وغيره من الأمثلة التي يوردها الكتاب، تبين بوضوح التفاوتات الأشد خطورة التي ابتلي بها العالم في القرنين الماضي، والحالي وتقدم أدلة واضحة وبديهية على أن الممارسات المؤسسية هي السبب الحقيقي وراء التفاوت العالمي بين ثراء الأمم.
وما يّقصد به في تعريف المؤسسات هو أنها ليســت مجــرد منظمــة أو مؤسســة تهــدف إلــى إنجــاز غــرض محــدد بل هـي أيضـا الجماعـات راسـخة التأسـيس المقبولـة كجـزء أساسـي مـن الجسـم الثقـافي الكلي للبلد، وتضـم العـادات والتقاليـد الاجتماعيـة والقـوانين وطـرق التفكيـر وطـرق المعيشـة والحياة.
الواقع أن الاختلافات بين الدول تشبه تلك الموجودة بين قسمي نوغاليس، وربما على نطاق أوسع. ففي البلدان الغنية يتمتع الأفراد بصحة أفضل، ويعيشون لفترة أطول، ويحظون بتعليم أفضل كثيراً. كما يتمتعون بالقدرة على الوصول إلى مجموعة من وسائل الراحة والخيارات في الحياة، من الإجازات إلى مسارات العمل، التي لا يستطيع الناس في البلدان الفقيرة إلا أن يحلموا بها. كما يقود الناس في البلدان الغنية سياراتهم على طرق خالية من الحفر، ويتمتعون بالمراحيض والكهرباء والمياه الجارية في منازلهم. كما أن لديهم عادة حكومات لا تعتقلهم أو تضايقهم بشكل تعسفي؛ بل على العكس من ذلك، توفر الحكومات الخدمات، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والطرق والقانون والنظام.
إن ما يلفت الانتباه أيضاً هو أن المواطنين يصوتون في الانتخابات ويشاركون في تحديد الاتجاه السياسي الذي تسلكه بلدانهم. والسبب وراء كون مدينة نوغاليس في ولاية أريزونا أغنى كثيراً من مدينة نوغاليس في ولاية سونورا بسيط؛ ذلك أن المؤسسات المختلفة على جانبي الحدود بين البلدين تخلق حوافز مختلفة للغاية لسكان مدينة نوغاليس في ولاية أريزونا مقارنة بمدينة نوغاليس في ولاية سونورا. كما أصبحت الولايات المتحدة اليوم أغنى كثيراً من المكسيك بسبب الطريقة التي تشكل بها مؤسساتها الاقتصادية والسياسية حوافز الشركات والأفراد والسياسيين.
فكل مجتمع يعمل وفقاً لمجموعة من القواعد الاقتصادية والسياسية التي وضعتها الدولة والمواطنون وفرضتها على نحو جماعي. والمؤسسات الاقتصادية تشكل الحوافز الاقتصادية: الحوافز التي تدفع الناس إلى التعلم والادخار والاستثمار والابتكار وتبني التقنيات الجديدة، وما إلى ذلك. إن العملية السياسية هي التي تحدد المؤسسات الاقتصادية التي يعيش الناس في ظلها، والمؤسسات السياسية هي التي تحدد الكيفية التي تعمل بها هذه العملية.
وبناء عليه، من الصعب أن يتم إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي، أي أن الإصلاح يجب أن يكون مؤسسيا.
*الكاتب وزير اسبق.