حين نتأمل في "مساحة الممكن".. ندرك أنها ليست مجرد بديل محدود.. أو خيار دون الأحلام الكبرى.. بل هي عالم واسع.. يزخر بفرص التغيير.. وتكمن حكمته في استثمار الإمكانيات التي بين أيدينا.. دون أن نغرق في بحر الطموحات البعيدة.. في أحيان كثيرة.. تغرينا القفزات العالية.. والمشاريع العظيمة.. لكننا نغفل أن الأحلام الكبيرة قد تتلاشى أمام خطوات صغيرة وصادقة.. لهذا لا تقف متحسراً على أنك لم تختم القرآن في كل اسبوع.. أو لم تبنِ مسجداً.. أو لم تصل إلى قمة الإنجاز.. ولا تنتظر طويلاً على أرصفة الحرمان.. مكتفياً بالتحسر على آمال بعيدة.. بل انظر إلى ما هو ممكن الآن.. اقرأ ولو صفحات.. صلِّ ولو ركعات.. وتصدق ولو بتمرات.. فالأثر العظيم يبدأ من بذرة صغيرة.. وما أروعه من أثر.. إن أدركنا قيمته وحقيقة رسالته.
وفي السياسة.. نجد أن عوائق التغيير الكبير.. تصنع لنا تحديات تدعونا للتركيز على الممكن.. بدل الخوض في المستحيل.. في كل مجتمع هناك تطلعات للإصلاحات الجذرية.. أو التغييرات الشاملة.. ولكن كم مرة فشلت هذه المطالب العظيمة.. لأنها تجاوزت الممكن؟!.. إن قوة "السياسة الممكنة" تكمن في خطوات صغيرة متراكمة.. خطوة لتحسين الخدمات.. خطوة لدعم المحتاجين.. فالتغييرات الصغيرة ليست قفزات باهرة.. لكنها قادرة على صنع فرق حقيقي.. تراكم يؤدي إلى أثر متين يدوم.. ويتجنب حالة الخيبة التي ترافق المغامرات الطموحة.. والتي غالباً ما تصطدم بالواقع.
أما الجانب الاقتصادي.. فهو يُظهر لنا المعنى الأعمق لمساحة الممكن.. فالدول كثيراً ما تتطلع إلى مشاريع ضخمة.. واستثمارات عملاقة.. لكنها قد تغفل أحياناً عن اقتصاد أكثر ثباتاً.. اقتصاد ينبني على تطوير قطاعات محلية.. كدعم المشاريع الصغيرة.. أو تنمية الصناعات الوطنية.. أو حتى التركيز على السياحة والزراعة.. إن "قتصاد الممكن" يخلق فرصاً حقيقية.. يزرع جذوراً عميقة في الأرض.. يخلق استقلالاً هادئاً.. وقوة لا تهتز.. وإن لم يكن لامعاً كالمشاريع الضخمة.. إلا أنه يبني للمستقبل أساساً متيناً.. ويجعل الاقتصاد ينبع من أبناء الوطن.. لا من استثمارات عابرة.
وفي الجانب الاجتماعي.. نجد أننا دوماً أمام تحدي المقارنات مع الآخرين.. تحدي بلوغ المستويات التي صنعها الآخرون.. بريق النجاح والتميز.. الذي نراه في الخارج يستهلكنا.. لكنه يغفل عن إمكانياتنا الشخصية.. عن دائرة الممكنات في حياتنا.. والتي تبدأ في التفاصيل الصغيرة.. ابتسامة بسيطة نرسمها على وجه شخص.. كلمة طيبة نرسلها إلى من حولنا.. جبر خاطر.. عطاء نابع من القلب.. إن "الممكن" في الحياة الاجتماعية لا يحتاج إلى ثروات.. بل إلى نظرة صادقة.. ونفسٍ ترى أن الأثر لا يقاس بكبره.. بل بصدقه وإخلاصه.. وهذه الخطوات الصغيرة تتراكم.. تبني علاقات أعمق.. وتخلق روابط تستمر.
وفي كل ليلة.. ليكن همك محاسبة نفسك على الممكنات التي أضعتها.. على الفرص التي كانت في متناول يدك.. ولم تستغلها.. وليس على المستحيلات التي تمنيتها.. تذكر أن الطريق إلى أي حلم يبدأ بخطوة.. خطوة صغيرة واثقة.