يواجه العالم لحظة حاسمة تتطلب إعطاء الأولوية للممارسات وسياسات الاستدامة، وذلك للتصدي لتغير المناخ، وتدهور النظم البيئية. ومع أن التحول نحو "الاستدامة البيئية" بدأ كرد فعل لهذه الأزمات، إلا أنه أصبح اليوم خيارًا استراتيجيًا على مستوى العالم من أجل تحقيق توازن بيئي شامل في سياق نظام ايكولوجي عالمي متوازن.
ومع تصاعد تراجع النظام البيئي، تغدو المهمة العالمية لحماية الكوكب ضرورة ومسؤولية أخلاقية، ذلك إن الممارسات الصناعية غير المنظمة، والاعتماد على الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات، والتلوث، تدفع النظم البيئية نحو أضرار لا رجعة فيها. وتُشعَر الآثار السلبية لهذه الممارسات بشكل حاد في المناطق الضعيفة مثل المناطق الساحلية والصحراوية، حيث يمكن أن يكون لأبسط تغير في المناخ تأثيرات ومخاطر على التنوع البيولوجي وسبل العيش المحلية. وفي ضوء هذا التحدي البيئي الكوني يصبح تقليل الانبعاثات، وحماية الموائل الطبيعية، والتحول إلى الطاقة المتجددة قرارات مُلحة للحفاظ على النظم البيئية للأرض.
من خلال التحول إلى الطاقة المتجددة، واعتماد أنماط حياة مسؤولة، وتطبيق تخطيط مكاني صديق للبيئة، يمكننا إرساء قواعد كوكب صحي وأكثر مرونة. ففي كل مكان، من القرى الريفية إلى الصحاري الشاسعة، باتت الحاجة واضحة للابتعاد عن ممارسات الاستهلاك المفرط التي تستنزف الموارد الطبيعية، وتجديد العلاقة بين الإنسان والبيئة بأسلوب يعزز الانسجام البيئي والعيش المستدام.
إن فلسفة الاستدامة البيئية ورؤيتها وممارساتها تتطلب منا إعادة التفكير في أسلوب حياتنا الحالي. الفرد بحاجة ماسة إلى التحول من مستهلك نهم ومسرف إلى مستهلك مسؤول ومنتج، مما يتطلب تعزيز ثقافة إعادة التدوير في منازلنا وأماكن عملنا وعاداتنا اليومية. يجب أن نكون أكثر وعيا لعواقب خياراتنا الاستهلاكية، وأن نسعى لخلق نظام يوازن بين الاستهلاك والموارد المتاحة، الأمر الذي يساهم في بناء مستقبل أكثر استدامة.
الاستدامة لم تكن غريبة عن أجدادنا، فقد أدركوا أهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية وعرفوا كيفية استغلال مياه الأمطار بحكمة. اعتمدوا على تقنيات بسيطة ولكن فعالة لتجميع مياه الأمطار وحفظها للاستخدام خلال مواسم الجفاف. كما كانوا يزرعون الأشجار والنباتات التي تتكيف مع مناخهم وتحتاج إلى كميات قليلة من المياه، مثل الزيتون واللوز والصبار. ويشاركون بقايا الطعام مع الطيور والحيوانات الضالة، أو تحويلها إلى سماد عضوي، أما الملابس المتبقية فكان يُعاد استخدامها في حشو الفُرُش أو تُحوّل إلى كرات قماشية وألعاب للأطفال أو تُستخدم كأقمشة للتنظيف، وعلى الرغم من بساطة تلك الممارسات إلا أنها تعكس فهما عميقا للبيئة وكيفية استدامتها. هذه الممارسات لم تكن مجرد حلول بيئية، بل كانت جزءاً من فلسفتهم في الحياة ووعيهم بأهمية العيش بتناغم مع الطبيعة وبعيدا عن هدر مواردها، مما يخلق نموذجاً نستطيع أن نستلهم منه اليوم لتعزيز الاستدامة في مجتمعاتنا.
لدينا مقومات طبيعية متاحة تنتظر الاستثمار البيئي الأمثل لها. في سبيل تحويل المدن والقرى الأردنية إلى مراكز اقتصادية خضراء ومستدامة، يمكننا الاستفادة من طاقة الرياح عبر مزارع رياح مجتمعية تُولّد الكهرباء وتخفض التكاليف، وإنتاج الغاز الحيوي من النفايات لتزويد البيوت بطاقة نظيفة. كذلك، تشكل الزراعة الحراجية والأحزمة الخضراء حلولاً لدعم التربة وزيادة دخل المزارعين، فيما تتيح البيوت الزراعية الشمسية زراعة مستدامة على مدار العام. تبني ممارسات مثل الري بالتنقيط والزراعة العضوية، يمكن للمزارعين الحفاظ على المياه، وتقليل المبيدات، وتحسين صحة التربة. كما يساعد على تمكين المزارعين داخل نظمهم البيئية بفرص عمل خضراء، مما يعزز مفهوم الاستدامة في سوق العمل ليمثل نمط حياة وليس ترفاً نخبوياً.
من جهة أخرى، يمكننا تطوير السياحة البيئية بتجهيز مرافق مستدامة تعمل بالطاقة الشمسية لاستقطاب الزوار، واعتماد أنظمة حصاد المياه للحفاظ على هذا المورد الثمين. ولتمكين الأجيال الصاعدة، ننشئ مراكز تدريب على التقنيات الخضراء وندعم التعاونيات الزراعية العضوية لزيادة دخل المزارعين. هذه الأفكار تفتح الباب أمام مستقبل أخضر وواعد، يجعل من الأردن بيئة منتجة تُعزز فرص العمل والاستدامة الاقتصادية لأهلها.
يتطلب تحقيق الاستدامة البيئية توافق التطوير والتحديث مع استراتيجيات تنموية سيادية تأخذ بعين الاعتبار الأهمية البيئية والاقتصاد الأخضر. يجب تعزيز البعد البيئي في الخطط الرسمية والمناهج التعليمية وتعزيز الحوار حولها على المستويات الوطنية والإقليمية.
نحتاج الى تطوير الصناعة الخضراء من خلال تعزيز التعاون بين القطاعات المختلفة، مثل الزراعة والسياحة والطاقة المتجددة والاقتصاد الريادي وغيرها، لبناء اقتصاد مرن ومستدام. يمكن أن تصبح المناطق الريفية مراكز إنتاجية للشباب المدرب في التقنيات الخضراء، مما يخلق فرص عمل محلية ويحد من الهجرة الداخلية.
من خلال ترسيخ ثقافة الاستدامة واقتصادياتها وسياساتها على جميع الأصعدة وبمنهجية تكاملية وشمولية، يساهم الأردن في بناء اقتصاد يوازن بين الإنسان والنظام البيئي ويبني أردن أقوى بإلتزامه الأخلاقي البيئي وأكثر اخضرارًا وإنتاجية.