وعليّ هنا, هو الرئيس اليمني العقيد علي عبدالله صالح, الماكث في موقعه 33 عاماً والمرفوض شعبياً وخصوصاً الرافض مغادرة القصر الرئاسي, والذي تتواصل مراوغته واحبولاته ذات الاهداف بل الهدف الذي لم يعد يخفيه شخصياً, وهو اشار اليه في وضوح يوم اول من امس, بعد أن أقدم بلطجيته على محاصرة سفارة دولة الامارات العربية المتحدة, والتي تواجد فيها سفراء الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الاميركية ووفد مجلس التعاون الخليجي, المولج رعاية توقيع طرفي الازمة, الرئيس والمعارضة (اللقاء المشترك تحديداً) على النسخة الرابعة (..) من المبادرة الخليجية, الرامية الى تأمين انتقال سلمي للسلطة وعلى رأسها تنحّي «العقيد» مع توفير ضمانات له بعدم ملاحقته وأسرته قضائياً, وهو أمر طالما شكّل الهاجس الأول والأخير لرئيس لم يخضع وبطانته ذات يوم الى أي محاسبة, بل لم يُقدّم أحد منهم أي اقرارات بذمته المالية أو ابدى استعداداً للخضوع الى أي تحقيق, بشبهة الفساد أو النهب أو اساءة استخدام السلطة أو الحصول على عمولات او رشى مقابل تسهيل معاملات وصفقات..
يخطئ من يعتقد أن الرئيس اليمني ساذجاً أو ضعيفاً فهو يدرك «عن تجربة» طبيعة التناقضات والتعقيدات التي تكبّل اليمن اجتماعياً وقبائلياً, وهو أيضاً على ثقة بأن الذين كانوا يخرجون الى ميدان «السبعين» مؤيدين له وداعمين, انما هم اصحاب مصلحة في بقائه وهم مستفيدون بهذه الشكل أو ذاك, ناهيك عن الشحن العصبي والغرائزي الذي واصله انصار الرئيس في الدولة والحزب الحاكم, ولهذا يراهن هذا الرجل, على هؤلاء الذين خضعوا للتجربة مرتين ونجحوا فيهما, الاولى عندما سفكوا دماء المتعصمين في ميدان التغيير وحصدوا ارواح 52 ضحية واوقعوا اكثر من 300 اصابة, والثانية عندما «طوقوا» سفارة الامارات المتحدة في صنعاء في سلوك أقل ما يمكن وصفه بأنه متخلّف وغير حضاري, ليس فقط تجاه سفارة دولة شقيقة وانما ايضاً في كسره للاعراف والتقاليد الدبلوماسية, التي لا تحاول المسّ بسفارة أي دولة حتى تلك المنخرطة واياها في حرب عسكرية..
ليس الرجل ساذجاً وإن بدا مرتبكاً ومتناقضاً ومأزوماً, فهو لجأ الى المناورة منذ الايام الاولى لاندلاع الثورة اليمنية الى «تصدير» الازمة وتحميل الولايات المتحدة, مسؤولية هذه الاحداث, ولم يتردد في الحديث عن «غرفة» في تل ابيب تدير واشنطن من خلالها «المؤامرة» عليه, وعندما أظهرت ادارة اوباما «بعض» عتبها (حتى لا نقول غضبها) سارع الى الاعتذار بطريقة لا تنم إلا عن روح منكسرة ودونيّة واضحة.. ثم لجأ الى اسلوب اكثر انحطاطاً فتحدّث عن «خفة دم» مفتعلة, خانته فيها مراوغته وانعدام لياقته الاخلاقية, عندما غمز من قناة «الثوار والثائرات» في ميدان التغيير محذراً من مغبة الاختلاط (..) بين الجنسين, وعندما هاج الشعي اليمني رافضاً مثل هذه «الخفة» المتعددة الاوجه, خرج اعوانه للاعتذار والزعم بأن «فخامة» الرئيس لم يقصد ذلك, وكان الجميع يعلم انها ليست مجرد زلة لسان..
تأتي عملية محاصرة سفارة الامارات لتضع الرجل في قفص الاتهام, فالمسألة ليست عفوية, والذين حاصروا السفارات ومن فيها, هم أكثر او أخطر من أن يكونوا مجرد انصار أومحازبين, فهم تماماً من «صنف» اولئك الذين «طوقوا» القصر الجمهوري داعين «الرئيس» الى عدم التوقيع على المبادرة الخليجية, ما يعني انهم اصحاب مواقف سياسية ولديهم رؤاهم وقراءاتهم اليساسية للازمة اليمنية المفتوحة الان على كل الاحتمالات, بعد أن اوصل «عليّ» الامور الى نقطة اللاعودة وتراجعت خياراته وبات الوصول الى نقطة اللاعودة مسألة وقت, بل إن العقيد «حذّر» في شكل واضح من «الحرب الاهلية» محملاً مسؤولية ما يحدث (وما حدث على ما قال) للمعارضة.. وهذا تمت ترجمته في الاشتباك مع نجل الشيخ عبدالله الاحمر الذي جاء به الى السلطة ورعاه قبل أن يرفع الغطاء عنه اشهر قليلة قبل رحيله.
رمت كل مراوغات واحبولات «عليّ» الوصول الى هذه المرحلة.. مرحلة الحرب الاهلية التي يستطيع فيها «العقيد» أن يبقى رئيساً وزعيماً لجماعته, وليذهب اليمن الموحد أو غير الموحد (لا فرق) الى الجحيم, إذ لشهر ايار (مايو) مكانة خاصة في تاريخ هذا الرجل, الذي جاء صدفة الى الحكم ولا يريد أن «يرحل» إلا بمذبحة تسيل فيها دماء اليمنيين, على النحو الذي قارفه في مثل هذه الايام (27 ايار) تحت مزاعم الدفاع عن الوحدة, لكنه كان يقود تحالفاً «مركّباً» وغريباً اراد فيها قهر شركاء الوحدة واخراجهم من المشهد, وترك الجنوب «الشعب والدولة السابقة» فرصة للانتقام والتهميش والنهب والاستيلاء على ما تقع أيدي «المنتصرين» من غنائم(!!).
ليس صدفة اذاً, أن يحبس الجميع انفاسهم وأن ينظروا بلهفة وغضب شديدين الى سيناريو الحريق, الذي يستعد «عليّ» لاشعاله في اليمن ضارباً عرض الحائط بالمبادرات والوساطات ومزدرياً الذين يواصلون دعوته للرحيل.
يظن الرئيس اليمني انه بـ «صموده» سيتمكن من تفكيك صفوف خصومه وتوسيع الهوة بين تشكيلات المعارضة, وبخاصة بين اللقاء المشترك وشباب الثورة حيث عارض ثوار ميدان التغيير ذهاب «اللقاء» للتوقيع على المبادرة الخليجية, لكن ما حدث بعدها زاد من «عريّ» الرئيس وأوصله الى الحائط «راغباً» لأنه يخطط لاشعال حرب اهلية, يعلم أنها اذا ما نشبت فإنها ستحول دون وصول ابرز خصومه الى السلطة, ما يعكس مدى الحقد الذي يملأ صدر هذا الرجل الذي لا يتمتع بأي كاريزما او ثقافة سياسية, ولا يتوفر على سمات شخصية لافتة بل بقي رغم «تجربته المديدة» وكأنه لم يتعلم شيئاً, وصارفاً النظر حد التواطؤ ازاء عمليات النهب المنظم لثروات البلاد ووصول الفساد تخوم المأسسة.
Kharroub@jpf.com.jo
(الرأي)