في زمن التطورات المتسارعة والهجمة التكنولوجية الكبيرة الذي نعيشه اليوم، أصبح الناس يعيشون في عالم جديد، فرض سيطرته عليهم وجاء بكل جديده، فغير أنماط معيشتهم وسلوكياتهم وخلط ثقافاتهم، ونقلهم نقلة نوعية إلى عصر جديد مليء بالفوائد والمخاطر في الوقت ذاته.
حققت هذه التظاهرة العالمية تقدماً في شتّى المجالات، الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فقربت البعيد وسهلت المصاعب وأصبح العالم قرية بل غرفة صغيرة يسهل الوصول من خلاله لأي معلومة وأي شخص في أسرع وقت وأقل تكلفة. وحققت نقلة نوعية وتحولاً كبيراً، وشكلت واقعاً متطوراً وخطيراً تجاوز الحدود وأذهل العقول، واخترق المبادئ وبدل القيم، تلك القيم التي كان مصدرها المسجد والمدرسة والوالدين وكبار السن، حتى انتقل هذا الدور للحاضنة الجديدة، شبكة الإنترنت وما تحويه من تطبيقات ووسائل.
لم تكن الأسرة- اللبنة الأساسية في المجتمع- بمنأى عن هذا الغزو العنيد، فقد تأثرت وبشكل كبير وسلبي، فأصبحت خارج نطاق السيطرة، فشتّت وفرّق وباعّد بين أفرادها، وأخذ كل فرد من الأسرة إلى عزلة تامة، فصار لكل منهم عالمه الخاص المنفصل، فكانت النتيجة أسر مفككة مهتزة، ضعيفة تفتقد إلى الترابط والمشاعر المتبادلة فغدت هشة كبيت العنكبوت.
ضعفت أواصر التفاهم بين الآباء والأبناء، وبين الأخوة وبعضهم، فلكل شأنه واهتماماته وعالمه، فتلاشت الحوارات الهادفة والسهرات والجلسات الدافئة بين أفراد الأسرة، فتغلب الصمت على لغة التفاهم، وعمّ الهدوء _ السلبي _ معظم البيوت، ولم يعد هناك متسع في الصدر أو حاجة لأي طرف أو فرد للآخر، فقد لبت المحتويات والمغريات المتاحة حاجاتنا، وبتنا نشعر باستغناء تام عمن هم حولنا، واكتفى كل بعالمه الافتراضي.
من هنا، لابد لنا أن نسأل أنفسنا، هل نقف مكتوفي الأيدي أمام فساد وانهيار هذه المنظومة بأكملها!؟
وهل ستحل وسائل التواصل الاجتماعي محل التواصل الوجاهي؟!
هل نقبل بهذا الضيف الذي طالما فتحنا له الأبواب بأيدينا واستقبلناه وأحسنّا استقباله فأصبح ضيفاً مُقيماً مَقيتاً لا نرغب بوجوده ولا نستطيع التخلص منه في الوقت ذاته؟!
قبل أن نبحث عن الإجابة، وحتى نكون أكثر واقعية وإنصافا، لابد من الاعتراف بما وفرته هذه التقنيات الجديدة للأسرة من فوائد هائلة وتسهيلات جمّة، من سبل جديدة للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد خاصة بين اولئل الذين باعدت المسافات بينهم لعمل أو دراسة أو نحو ذلك، إلى سهولة الحصول على الفائدة والمعلومة بأوانها، ودون عناء.
وحتى نبقى ضمن الحد الآمن، لابد من وضع إجراءات ووسائل على الأقل للحد - وليس التخلص - من هذه المخاطر الفكرية والاجتماعية التي هيمنت وتغلغلت في عقول الكبار قبل الصغار.
وهنا نوصي بالمتاح مما يمكن فعله من قبل كل منا ف (ما لا يدرك كله لا يترك جله) فنوصي بالتوازن والاعتدال.
ولا بد من وضع حدود زمنية لاستخدام مواقع التواصل أو الأجهزة الذكية، وتحديد وقت يومي إجباري أشبه بميثاق شرف بين أفراد الأسرة بترك جميع ما يرتبط بشبكة الإنترنت، وضبط استخدام الهواتف أثناء الحوارات العائلية وأثناء الطعام وقبل النوم وبعد الصحو مباشره، وتفعيل الأنشطة التعليمية والترفيهية خاصة بين الأطفال ولا بأس من تخصيص بعض الهدايا البسيطة لتشجيعهم، ولا بد من مساعدة أولادنا على تحديد مواقع الويب الآمنة والموثوقة، وتوعيتهم من المخاطر والمحرمات، وننصح بزيادة الجولات الترفيهية خارج المنزل والزيارات العائلية فهي ستفصلهم عن عالمهم الافتراضي المظلم وتنمي الذكاء الاجتماعي ولغة الحوار لديهم وتعزز قيمة صلة الرحم التي طالما تخلى عنها الأبناء تماماً، وكأنها منوطة بالكبار فقط.
إن الدور الأهم والمنقذ الوحيد للأسر يقع على عاتق الوالدين فهم القدوة التي يستمد الأبناء منهم معظم أفعالهم وتصرفاتهم، فإذا صلُح الآباء، صلُح الأبناء، وصلحت الأسرة، وصلُح المجتمع بأسره.
فالأمل موجودة والاستطاعة واردة، لكننا نحتاج إلى الإرادة الحقيقية التي تبدأ فورا من غير تسويف ومماطلة، فالزمن لا يرحم والأيام في سباق والعمر يتناقص أمامنا.
والله ولي التوفيق