يُعَدُّ مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب" من أهم ركائز الإدارة والقيادة الفعّالة التي تهدف إلى تحقيق الأداء الأمثل للمؤسسات. يقوم هذا المبدأ على معايير إدارية مدروسة تُحدد بدقة قدرات وإمكانيات الأشخاص المرشحين للتأكد من مدى ملاءمتهم لتأدية المهام المطلوبة بكفاءة ونجاح. منذ عقود، أكدت الدولة على أهمية تحقيق التناسب بين قدرات الأفراد ومتطلبات المواقع الوظيفية باعتبار أن النجاح في هذا التوافق يعزز فعالية أداء المؤسسات العامة ويضمن تقديم الخدمات بجودة عالية.

ورغم التأكيد على أهمية هذا المبدأ، إلا أن تطبيقه واجه العديد من العقبات، حيث "تفشت" ثقافة المحاباة والعلاقات الشخصية التي أضعفت معايير "الجدارة"، وبرزت "المحسوبية" كعامل مؤثر في التوظيف. إلى جانب ذلك، تراجعت مستويات المساءلة الفاعلة، مما سمح بانتشار الترهل الإداري وأضعف الأداء المؤسسي. هذه التحديات أدت إلى تعطيل مبدأ تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب، وحالت دون تحقيق النتائج المرجوة في تحسين الأداء الحكومي.

في السنوات الأخيرة، أظهرت الدراسات أن توظيف علوم "البصائر السلوكية" يمكن أن يوفر حلولًا مبتكرة لهذه الإشكاليات. إذ يساعد هذا النهج في تنظيم أسس الاختيار بشكل مرن وعادل في الإدارات العامة. من بين أهم التطبيقات المستخدمة في هذا السياق هو نظام "التوظيف المجهول" الذي يهدف إلى مكافحة المحسوبية. يعتمد هذا النظام على إخفاء المعلومات الشخصية للمتقدمين للوظائف، مما يتيح لأصحاب القرار التركيز فقط على المؤهلات والخبرات، وبالتالي تقليل احتمالات التحيز وتعزيز العدالة والشفافية في عمليات التوظيف.
لا تقتصر أهمية البصائر السلوكية على اختيار الأشخاص المناسبين فحسب، بل تمتد إلى تحسين آليات اتخاذ القرار في المؤسسات العامة، حيث يعتمد تطوير عملية اتخاذ القرار على تدريس نظريات متخصصة لموظفي القطاع العام، مما يعزز قدرتهم على تحليل الخيارات المتاحة وفق مناهج مدروسة وبناء استراتيجيات واضحة قائمة على المعلومات والبيانات المتاحة. يتيح هذا النهج لمتخذي القرار تقييم المواقف بعمق، والتنبؤ بالعواقب المحتملة، وتوسيع مساحة الخيارات الممكنة، ما يعزز فعالية السياسات العامة.

في السياق الأردني، حيث تتميز التركيبة السكانية "بالتعقيد والتنوع"، يمكن للبصائر السلوكية أن تقدم إطارًا فعالًا لصياغة القرارات. على سبيل المثال، يمكن توظيف "نظرية اتخاذ القرار التعاوني" في القضايا المرتبطة بتنمية المحافظات. تقوم هذه النظرية على إشراك الأطراف المعنية، مثل قيادات المجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني والجهات الدولية المانحة، في عملية اتخاذ القرار، ويمكن تنظيم هذه المشاركة من خلال اجتماعات عامة أو منصات رقمية أو عبر مجموعة من الوسائل المتاحة.

أما في ما يتعلق بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، فقد تكون نظرية اتخاذ "القرار التدريجي" أكثر ملاءمة. تركز هذه النظرية على تحقيق تقدم من خلال خطوات صغيرة وقابلة للقياس بدلًا من التغييرات الجذرية، مما يتيح المجال لتعديل المسار وفق الحاجة وضمان استمرارية التحسين التدريجي.

تدريب موظفي القطاع العام على تطبيق هذه النظريات يمكن أن يسهم بشكل كبير في "تحسين جودة الإدارة العامة". هذا التدريب يعزز "ثقافة الجدارة والشفافية"، ويطور من قدرات الموظفين على اتخاذ قرارات عقلانية وأخلاقية تخدم المصلحة العامة. كما أنه يضمن اختيار الأكفأ في المناصب الرئيسية، مما يعود بالفائدة على المؤسسات والمجتمع على حد سواء.

في الختام، يمثل اعتماد "البصائر السلوكية" في اختيار الأشخاص المناسبين وتطوير آليات اتخاذ القرار خطوة جوهرية نحو "تحسين الأداء المؤسسي". من خلال تعزيز الشفافية وتدريب الموظفين، يمكن تحسين كفاءة الإدارة العامة وضمان تقديم خدمات بجودة عالية للمواطنين. هذا النهج الشامل لا يضمن فقط تحقيق العدالة في التوظيف واتخاذ القرار، بل يعزز أيضًا "استقرار المؤسسات" ويدعم التنمية المستدامة للمجتمع بأكمله.

* باحث في صنع السياسات والبصائر السلوكية – كلية لندن للاقتصاد والسياسة