«ويكيليكس» كانت حاضرة, على منصة وفي اروقة منتدى الاعلام العربي, بعد كل ما أحدثته من هزات وتصدعات في بنى الدبلوماسية الاميركية الضخمة والمتغطرسة, والمقتنعة بأن أفول الامبراطورية الاميركية لم يحن بعد, وأن دبلوماسييها هم في مرتبة أعلى من كل ما تواضعت عليه الأمم في هذا الشأن.. كذلك في الاثار التي ترتبت على «كشوفاتها» وبخاصة في ما كان «يُسرّبه» قادة دول ورؤساء حكومات ووزراء وشخصيات عامة سياسية وحزبية بل وقادة جيوش, الى السفراء الاميركيين ومن هم أقل مرتبة بكثير, في عواصم المعمورة, وخصوصاً في عالمنا العربي, حيث يجد هؤلاء (المسربون أو ناقلو الاخبار والشائعات) أنفسهم في راحة واطمئنان بل في حال بوح لمن يرونهم ممثلي الدولة الاعظم, التي تستطيع-في رأيهم بالطبع-أن تطيح الانظمة وتفجّر الحروب الاهلية وتأتي بمن يأتمرون بأوامرها عبر انقلابات عسكرية او انتخابات مفبركة أو غزو عسكري..
في اطار ردود الفعل الدولية على تسريبات ويكيليكس, لم يكن بمقدور ادارة المنتدى أن تتجاهل برقيات السفارات الاميركية المنتشرة على بقاع المعمورة, في شكل سرطاني, إن لجهة ضخامة المباني وحراساتها المشددة التي ينهض بها أفراد المارينز, أم لجهة ما تعج بها من طواقم ادارية ودبلوماسية واقتصادية وتجارية ودائماً تجسسية.. ناهيك عن التحدي الذي فرضته هذه التسريبات على وسائل الاعلام, وعمّا اذا كانت في نظر بعضها بمثابة سبق صحفي أم يمكن ادراجها في باب المعلومات «الملغومة» التي قد تضر بالوسيلة التي تقوم بنشرها, ما يستدعي بالتالي ابداء المزيد من الحذر واليقظة لأن مصداقية وسيلة الاعلام تكون هنا أمام المحك, وخصوصاً نحو دعاة الحرية المسؤولة التي يتوجب على وسائل الاعلام ان تقف ازاءها «بمسؤولية», فيما ينبري آخرون رافضين أو منددين بمثل هذه المواقف لصالح حرية تدفق المعلومات بلا قيد أو شرط, ما دامت تُسهم في ايصال الحقيقة الى الجمهور..
متحدثو الجلسة, كانوا على درجة عالية من الفهم الدقيق لطبيعة التحدي الذي فرضته تسريبات ويكيليكس, منهم الاميركي والعربي الذي يعيش في اوروبا كما العربي الذي يعيش في لبنان ويعمل في صحيفة الاخبار اللبنانية, التي كانت السبّاقة في كشف كمّ غير بسيط من الوثائق باتفاق مع اصحاب الموقع وصحيفة بريطانية, كذلك كانت هناك رئيسة التحرير في صحيفة لوموند الفرنسية التي تحدثت بصراحة ومهنية عالية, مضيئة على سلسلة من المعايير التي اعتمدتها اسرة تحرير الصحيفة, قبل أن تبدأ بنشر الوثائق المتعلقة بالحرب على العراق (لم تشارك في نشر وثائق الحرب على افغانستان كما فعلت الصحف الاربع الاخرى التي عرضت عليها الوثائق) واعترفت دون ارتباك أو تردد أن لدى صحيفتها اهتماماتها الخاصة, وهي بالتالي نظرت الى وثائق وبرقيات تهمها واهملت غيرها, خصوصاً ان هناك كماً هائلاً من الوثائق, بات من الصعوبة الاطلاع عليها كلها, وعندما سُئلت ما هي الآلية التي اعتمدوها للتأكد من صحة الوثائق قالت: ان فنيي الصحيفة استخدموا آلية بحث معقدة وعلى اكثر من اسم ومجال ورغم هذا الدعم الفني الهائل والكبير فاننا لم نتعرف على بعض ما ورد في وثائق افريقية او هندية وحتى اميركية جنوبية ولم ننشرها بالتالي, في حين قام (آخرون) بنشر اشياء لم يتحققوا منها.. لكنها - السيدة سيلفي كوفمان - اضافت بارتياح, انهم استندوا في حكمهم على مصداقيتهم لنشر ما نشروا واستبعاد او اغفال بعض الوثائق التي رأوا انها تنهض على شائعات او تبدو ضعيفة او تنطوي على مخاطر.
ثمة اذا ما يمكن الحديث عنه في هذا الشأن بعد ان بدأ كثيرون يشككون في تلك الوثائق وفي مقابلهم ظهر من يصفق لها ويعتمدها وثائق لادانة خصومه او التشهير بهم او تحسين مواقعه وتحصين مواقفه واستثمار ما كان كتبه الدبلوماسيون الاميركيون عنهم او عن خصومهم.
النقاشات التي دارت حول ويكيليكس, بما هي ظاهرة صادمة انقسمت كالعادة, الى من هو مع ومن هو ضد وهناك من استحضر نظرية المؤامرة متسائلا عن سبب غياب «الشأن الاسرائيلي» الذي بلا شك سيكون مثيرا وربما انقلابيا ازاء نظرة الدبلوماسيين الاميركيين المحترفين الى ما يجري في الدولة العبرية وفي اطار أي زاوية ينظرون من خلالها الى قادة اسرائيل في المستويين السياسي والعسكري.
هناك من رأى في ويكيليكس «وكالة استخبارات للشعب» على ما ذهب اليه حسني عبيدي مدير مركز الدراسات والابحاث حول العالم العربي والمتوسط في جنيف، إلاّ ان هناك من ادخلها في خانة السرّي «وقرّر» ان «كل» سرّي صحيح ولتعزيز استنتاجه تساءل «وإلاّ.. لماذا هو سرّي» أما رئيسة تحرير لوموند الفرنسية فقالت في بساطة لافتة: ثمة (في الوثائق) امور قد يكون هناك من سمعوا بها او عرفوا عنها ولكن عندما تقرأها فإنها تكون ذات طعم.. مختلف.
للحديث صلة..
Kharroub@jpf.com.jo
(الرأي)