facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




باسم فرات: بعد كل هذا الترحال .. أحلم بالعودة إلى بغداد


24-10-2024 02:23 PM

عمون - حوار هاني نديم- كان الرحّالة العرب هم أول من كتبوا "أدب الرحلة"، وذلك بمعناه البلاغي والمجازي، فوصفوا المحلات والأماكن بأدق لغة ممكنة، وسافروا بنا عنوانات ووصوفات على متن البيان والسحر اللغوي. وقد أسسوا لثقافة موسوعية جمعت بين الجغرافية والتاريخ وعلم الاجتماع والأدب إلى جانب التجربة الشخصية والقياس الشخصي. ومن تلك المدرسة وهذا الفهم، من نستطيع أن نصنّفهم اليوم كـ"رحّالة" أقلّة ممن يكتبون عن رحلاتهم وسفرهم. ولا شك أن باسم فرات من هذه الأقلية التي نستمتع بما تكتب ونزداد ثقافةً أيضاً.

ومع التبحّر بمنجز فرات، وجدت الكثير من العمق الثقافي إلى جانب أدب الرحلات، فالشعر الذي كان عدّته اللغوية الأولى لم يغادره في كل ما يكتب، ووصفه الدقيق الاستقصائي وظفه على أكمل وجه في كتابه الفارق " اغتيال الهوية" الذي يؤرخ ويبحث في علم الاجتماع والجذور الاثنية في العراق.

التقيت باسم في مهرجان أبي تمام بالموصل هذا العام، وحاورته حول تلك التجربة الثرية. سألته:
• من كربلاء إلى نيوزلندا، ومن الشعر إلى الجغرافية والتاريخ وأدب الرحلات، كيف كانت الرحلة وكيف تقيس المسافة بين نقطتين وكم من مسافة قطعتها داخلك؟
- في خضم بحثي في سِيَرِ الشعراء، لاحظتُ عددًا كبيـرًا منهم، نجح في أكثر من مشروع جمالي أو معرفي جنبًا إلى جنب مع الشعر، منهم مَن أصدر أكثر من رواية ومجموعة قصصية ومسرحية، ومنهم من كتب الرواية وله منجزات في الفن التشكيلي والسينما والـمسرح، ومنهم من أصدر كتبًا نقدية أو ذات صبغة فكرية أو تاريخية. شخصيًّا كنتُ متميزًا للغاية في دروس اللغة العربية والتاريخ والجغرافية، بل كنت أستغرب وأنا أستمع لزملاء الدراسة وهم يتذمرون من أرقام التواريخ وسواها في كتب التاريخ، ومن أسماء الأنهار والجبال وبقية المناطق في كتب الجغرافية، كذلك التذمر من القصائد ومن كتابة "الإنشاء"، كان الـمعلم في الابتدائية يُلقي الدرسَ علينا ولم أكن أراجع في البيت، ومع ذلك كانت درجاتي تتراوح ما بين 95 – 100%، وفي السادس الابتدائي، أتذكر كنت في مكتبة الـمدرسة حين جلب أحد التلاميذ ورقة الامتحان ودرجتي كانت دون الرقم أعلاه، وعلى الرغم من خجلي الشديد، لكني قلتُ لزميلي أن يُخبر معلم الاجتماعيات أنني أستحق أعلى من هذه الدرجة، ومن ثم علمت أن الـمعلم قال أمام التلاميذ أن "باسم" على حق ومنحني درجة أعلى.

لم أكن أعرف ما هو علم الإناسة "الإنثروبولوجي" حينها، لكنني منذ نعومة أظفاري أعشق الشعر والأديان والتاريخ والجغرافية وأنتبه بكل حواسي حين أسمع أحدهم يتكلم عن عادات وتقاليد الشعوب الأخرى، كانت رؤية العالم، لا سيما الثقافات التي نَكاد نجهلها، هاجسًا بل هوسًا يسكنني، وأعزو الأمر إلى مدينتي، فكثرة الشعوب التي تتوافد عليها في مناسبات دينية، بأزيائهم وأشكالهم الـمختلفة، كانت تُحلّق بالطفل الذي كنته في فضاءات الخيال.

أزعم أنني لست سائحًا قط، إنما أنا تلميذ معرفة، ورحّال مهووس بالآخر، أعتقد أن مدينتي كانت سببًا في هذا الهوس بالآخر، فضلًا عن حياة عشتها بقسوة مفرطة، جعلتني أزداد إيمانًا بثراء التنوّع، وكلما توغلتُ في الترحال والبحث والـمغامرة، ازداد العراق قربًا، واللغة العربية قربًا، لقد علمني الترحال والبحث ومعايشة الشعوب، والانغماس في ثقافاتهم، جمال اللغة العربية، ودقة دلالتها، وسعتها، وثراء الثقافة العربية، وغزارة التراث العربي، الذي تجده واضحًا في كتاب الفيكونت فيليب دي طرازي "خزائن الكتب العربية في الخافقين" الذي أحصى ألفًا وخمسمئة مكتبة، حتى عام 1948 ميلادية، وكانت تحوي 262 مليون مجلد (نقلًا عن: تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام محمد هارون، ط7، 1998م. مطبعة الخانجي، القاهرة، ص 39).


كلما اتسعت الـمسافة، ازداد القُرب من نقطة الانطلاق، بعبارة أخرى، أن الترحال من أقصى جنوب العالم وشرقه إلى أقصى جنوب غربه، جعلني أكثر معرفة بالعراق، بل وبالعالم العربي، واطمأنَنْتُ أكثر إلى ما نشأت عليه من حب الآخر الـمختلف، وأن التنوع والاختلاف من سُنن الكون كما كانت تؤكد جدتي لأبي، حيث عشت طفولتي في كنفها. الـمسافة التي قطعتها بين نقطتين هي الحب، وأما المسافة التي قطعتها داخلي، فهي الشعور بالفخر أنني ابن اللغات كلها والثقافات كلها، أنا تلك الخلطة الجميلة من شعوب الأرض التي درست وعملت وعشقت وأَلّفَت وبنت ليس في العراق وحده بل في الهلال الخصيب كله، إن لم يكن في العالم، أنا عراقي عربي يعني أنا سليل شعوب الأرض كافة، وابنهم البار.

• في كتابك "اغتيال الهوية"، ما يشبه إعادة كتابة لتاريخ منطقتنا، وإعادة هدم وبناء للكثير من المفاهيم التي كرّستها كتب موثوقة، ما الذي يريده باسم فرات من هذا الكتاب؟ ومن هم المستهدفون منه؟ واسمح لي، لماذا لم يأخذ حقه في الانتشار وهو كتاب خطير ومليء بالمعلومات الجديدة؟
- منذ طفولتي وأنا مهووس بالتاريخ، وبأسئلة كثيرة كانت تشغلني وأبحث عن إجابات لها، وكنت في مراهقتي أجالس كبار السن، ومنهم تعلمتُ أشياء كثيرة عن العراق، وقادتني لمعرفة تاريخ التَّنوّع في العراق والـمنطقة، لا أنكر أن رغبتي العارمة أن أكون أنا نفسي، لا أقلد أحدًا في قراءاتي ولا في كتاباتي، أقرأ ما يُشبع فضولي الـمعرفي ويزيد من حسّي الجمالي، لا ما يُشيع من الكتب، وكأن "عارًا" على الشاعر أنه لم يقرأ الروايات التي لها سطوة الحضور في الـمشهد، أو الكتب الإبداعية أو الـمعرفية التي يتداولها الشعراء والأدباء، خشية أن يُسأل عن كتاب ما وإذا به لم يَقرأه.

مُذ كنتُ طفلًا وأنا لا أطيق الذين يُقلّدون الآخرين في مِشيتِهم أو سلوكهم أو في أي شيء آخر، لا زلتُ أتذكّر مواقف لي أتجرّأ وأنهى زملاء لي بعدم التقليد، ولهذا كنتُ إذا أقرأ لشاعر وأُعجب به، أقوم في الوقت نفسه بقراءة قصائد لشعراء آخرين، كي لا يَستوطن ذاكرتي ولاوعيي أسلوبه فأنسج على منواله، وهذا أنقذني منذ البدء من ارتكاب "جريمة" التقليد والاستنساخ.

في بداياتي قرأت كتبًا تاريخية ذات صبغة دينية، لكن التحول الكبير حدث حين انتقلت للإقامة في نيوزلندا، ولاحظت أن رفاق الرحلة من العراقيين السريان النساطرة، كانوا يتعاملون معنا نحن العراقيين العرب بطريقة جافة، وزاد الأمر حين تم وضعنا في مركز اللاجئين، لمدة ستة أسابيع من أجل الفحوصات وتعليمنا القوانين وحقوقنا وواجباتنا، وكان الـمركز عبارة عن خلطة عراقية، يُهيمن عليه السريان النساطرة، مع وجود كُردي وعربي، وكان سلوك هؤلاء تجاهنا مؤشر على أن هناك خللًا واضحًا في الـمجتمع العراقي، فروح الـمواطنة لديهم صفرٌ، ولا يُقدمون أنفسهم إلّا بصفتهم الإثنية، ولا علاقة لهم بالعراق.

تألمتُ كثيرًا وتعاطفتُ معهم، وبدأت من هنا رحلة البحث المضنية والجميلة، لمعرفة أسباب رفضهم لعراقيتهم، وكانت الـمفاجأة الأولى والصادمة التي حفزتني على البحث أكثر وأكثر، هو أن السريان النساطرة – دعاة الآشورية – جلبهم الاحتلال البريطاني في أيلول 1918 ميلادية من العمق التركي مثل مناطق حكاري وتياري العليا والسفلى عبر أُروميا الإيرانية إلى معسكر في بعقوبة وأن كنيستهم بقيت الكنيسة النسطورية حتى عام 1979 ميلادية حيث تم تغيير تسميتها إلى "الكنيسة الآشورية"، وقادني البحث إلى أن هؤلاء الذي لا شك قدموا خدمات جليلة للعراق بعد ذلك، لا يوجد بينهم مَن جده الرابع والخامس وفوق مَن كان يُسمى بتسميات آشورية مثل سرغون "سركَون" وسنحاريب وآشور وأدد وسواها من التسميات بل هي تسميات سريانية شائعة بين السريان في مناطق مختلفة من مناطق أعالي دجلة والفرات.

ثم تتبعت تاريخ هجرات غير العرب الـمسلمين، وهالني أن أعدادًا كبيرة للغاية منهم دخلوا العراق مؤخرًا، وإذا علمنا أن ثمانين ألف سرياني دخلوا العراق في الربع الأول من القَرن العشرين، فكيف بغير السريان، وهناك هجرات سريانية للعراق لم تنقطع منذ ما قبل الإسلام حين تم اضطهاد النساطرة على يد البيزنطيين، وبعد بناء مدن البصرة والكوفة وواسط ولكن كان لبناء بغداد ونهوضها دورٌ كبيرٌ ومفصليٌّ في هجرات سريانية وغير سريانية للعراق، جعلت العراق عبارة عن عالم مصغر لكثرة الأعراق والإثنيات التي نزحت واستقرت فيه.

وصلت إلى مجموعة قواعد وضعتها في كتابي "اغتيال الهُوية" منها أن الأرض التي تمتد من أعالي سفوح جبال زاغروس إلى أعالي سفوح جبال طوروس وعند سواحل البحر الـمتوسط وشرق دلتا النيل، إنما هي الأرض التي أنجبت الحضارات والكتابة والأبجديات، وتعرضت لشتى أنواع الهجرات الـمسالمة والعنيفة، ما جعل إمكانية وجود جماعة لغوية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأقوام التي ظهرت على مسرح التاريخ قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، نسبتها صفرٌ وبما أن لا وجود لأديان عمرها يمتد لآلاف السنين، كذلك لا وجود لجماعات لغوية عمرها يمتد لآلاف السنين، وأن اللغات صاحبة المنجز الواضح قبل القَرن العاشر الميلاد والمنجز الغزير قبل الثالث عشر الميلادي، هي الأقوام التي لها وجود قبل الميلاد، في حين أن الأقوام التي تفتقر لمنجز واضح قبل القَرن الثالث عشر فهي قد تكون هجرتها متأخرة لما بعد بناء بغداد بمدة زمنية قد تصل إلى قرون لو أنها تفتقر إلى عشرات الشعراء والمؤلفين قبل القَرن السادس عشر، وتزداد هجرتها حداثة وقد تصل في غالبيتها العظمى لما بعد سقوط الأندلس، حين تفتقر لعشرات الشعراء والكُتّاب والأدباء عاشوا قبل الحرب العالمية الأولى، كيف تكون عريقًا في "الهلال الخصيب" بلاد الكتابة والتدوين ومهد الحضارة البشرية، والعراق هو مهد ومؤسس الحضارة العربية الإسلامية، ولا يمكنك يا شريكي في الوطن تعداد 29 شاعرًا وأديبًا ومؤلفًا ولدوا قبل مرور 1300 سنة هجرية على بناء مدينة البصرة، أو قبل مرور 1200 سنة ميلادية على بناء مدينة واسط (704- 1904م.) وتفتقر لعشرين كتابًا بلغتك صدرت قبل عام 1345 هجرية أي 1200 سنة هجرية على بناء بغداد، وعلى سبعين كتابًا صدرت بلغتك قبل مرور 700 سنة ميلادية على سقوط بغداد على يد الـمغول (1258- 1958م.).

"اغتيال الـهُويّة" كتاب وضعتُ فيه منهجًا أزعم أنه جديد ألا وهو الـمنهج التدويني، وهو لوقف نزيف فوضى السرديات، حيث وجدتها تضخمت، وأصبحت كل جماعة لغوية تتحدث عن تاريخ عريق لها يمتد لستة آلاف سنة وأكثر في الـمكان الذي تعيش فيه الآن، وهو مكان تتنازعه جماعات – عرقية وإثنية وقومية – لا أحد فيها يعترف بالآخر، ولا فرق بين مَن يملك تاريخًا تدوينيًّا غزيرًا يمتد لعشرات الأجيال، وبين مَن لا يملك كتابًا واحدًا أو عشرات الكتب قبل عشرينيات القَرن العشرين.
سرديات تتكئ على السردية الصهيونية الـمبنية على الحق التاريخي – الديني، والنقاء العرقي الذي يصلها بيعقوب، مخالفة كل نواميس الحياة بالاختلاط والتزاوج، وهكذا نجد الجماعات اللغوية في المنطقة تنهج النهج نفسه، فهي وحدها صاحبة الحق في المكان الذي وُجِدَ منذ قرون طويلة وهو متنوع لغويًّا وعقائديًّا.

أرض الحضارات والكتابة والتدوين – العراق وبلاد الشام ومصر – هي أيضًا مصهر لعشرات الأعراق والإثنيات والقوميات، غنية بتراثها وتاريخها وتنوعها، وهي في الوقت نفسه تفتقر تمامًا للنقاء العرقي، ونحن العرب نُعدّ آخر تمظهر ثقافي في المنطقة، وبفضل تاريخنا الحضاري العريق، صارت لغتنا العربية وهي ابنة اللغات السامية كلها، أوسع لغات العالم وأدقها دلالة، وأصبحنا نملك أكبر مخزون آثاري ومخزون تدويني تراثي، حتى أن ما كُتب في العراق إن لم يكن في بغداد وحدها في العصر العباسي، هو مئات الآلاف من الكتب، أي مقابل كل كيلومتر مربع في العراق هناك كتاب باللغة العربية.
في كتاب اغتيال الهوية توصلت إلى أن الغزاة ليس الذين يأتون بجيوشهم فقط، إنما الغزاة أيضًا هم الذي لا يملكون ذاكرة جمعية تدوينية في الـمكان التدويني الغزير – العراق وبلاد الشام أنموذجًا – وينسبونه لهم وحدهم دون سواهم.

كتاب اغتيال الهوية موجه ضد كل متطرف وإرهابي وعنصري وطائفي إلغائي اقصائي استحواذي، لا يحترم تنوعنا ويقتل روح الإخوة بيننا عبر سردياته التي تلوي عنق اللغة والتاريخ والجغرافية، لإرضاء شهواته في السيطرة والتحكم وقتل شريك الوطن عبر شيطنته.

أما لماذا لم يأخذ حقه في الانتشار؟ صدقًا لا أعرف الأسباب التي وراء ذلك، ربما لأني لا أعرف كيفية الإعلان عنه، وكل ما يمكنني قوله: إنه كتاب جاء نتيجة قراءات واسعة للتاريخ الثقافي للشعوب ومعايشتها على امتداد سنوات طويلة، إنه نتاج ربع قَرن إن لم يكن أكثر من البحث والمعاينة والتحليل والتأمل، حتى وصلت إلى النتائج التي ذكرتها والقواعد التي وضعتها، واستفدت كثيرًا من تجارب الإناسيين "الإنثروبولوجيين" والـمؤرخين، بل وضعت سطوة الـمتداول من السرديات ورائي مثلما يتعامل الـمستشرق مع النص القرآني تعاملًا يختلف كليًّا عن تعامل الـمسلم مع كتابه الـمقدس، رحتُ أقلّب السرديات، وأسأل أين الدليل، فلا حضارة حقيقية بلا مدن تدوينية، ومثلما تخلو الـمدن من النقاء العرقي، كذلك القوميات والحضارات، فالقوميات ثقافية، وحين تكون عرقية فهي ليست قومية، والحضارات صناعة شعوب عديدة، وغيرها من الـمفاهيم التي ناقشها الكتاب الذي أرجو أن ينال الاهتمام والتقدير الذين يستحقهما.


• عن المنبت الأول، عن كربلاء والأهل، ورحلتك الأولى خارج المدينة والعراق وبدايات الترحال، بم تحدثنا عن "نداهة" السفر التي دفعتك إلى أقاصي الأرض؟
- في كربلاء تلتقي قوميات وإثنيات وجنسيات مختلفة ومن عشرات البلدان، في أوقات مختلفة من العام، وكنت أنظر إلى ملابسهم وأشكالهم، وكأي طفل في أعماقه التقى الخيال والطموح والشعور العارم بالحرمان، كنت أمرح مع خيالي نحو بلدان هؤلاء الناس، مُـتَمَنّيًا أن يتحول الحلم إلى حقيقة، وأقول مُـتَـمَـنِّـيًا ولم أستعمل مفردة "راجيًا" لأن ظرفي حينذاك كان لا يُبشّر بأي بارقة أمل، حتى أنني أؤمن أن الشخص الذي حاصرته الظروف الصعبة والسيئة، لكن إيمانه أن الإصرار والثقة بالنفس والإرادة سيحقق الـمعجزات.

كانت هذه بوادر أولى كامنة في تلافيف الذاكرة، وحين بدأتُ بالقراءة وتتبع سِيَر الشعراء والأدباء والأعلام، أغرتني حياة الشعراء الذين تنقلوا بين الأمكنة، وكان حلم السفر لرؤية العالم يستوطنني، لكنني لم أبح به يومًا، لكن هذا الحلم تحقق وبطريقة أظنها مختلفة عن بقية الرحّالة، وأعزو الأمر إلى رفضي أن أتبع خطوات غيري، وأرفض أن أتشبه بأحدٍ ما، وعملت بكل إخلاص للشعر وللكتابة، على أن تكون تجربتي لها خصوصيتها، وأرجو أنني وُفّقتُ لتحقيق هذا الأمر.

أعتقد أن لوثة ورثتها من سلفي أحمد بن فضلان البغدادي (القرن العاشر الميلادي) أو ربما من ابن زريق البغدادي (ت 1029) الذي أبياته أدناه وكأنه يعنيني:
ما آب من سفرٍ إلّا وأزعجَـهُ رأيٌ إلى ســـفـرٍ بالعـزمِ يَزمعُــهُ
كأنما هـو في حـلٍّ ومُرتحـلٍ مـوَكَّـلٍ بــفـضــــاءِ الله يـذرَعُــهُ
إنَّ الزمانَ أراهُ في الرحيلِ غنىً ولو إلى السِّنْدِ أضحى وهْوَ يُزمَعُهُ.

• فزت بجائزة السلطان قابوس، إلى جانب جائزة ابن بطوطة وغيرها من الجوائز، لو كنت محكمًا في تلك الجوائز، ما هو البند الذي يجب أن تأخذ عليه الجائزة، التفاصيل، الهوامش، التدوين، ما هي ميزتك الكتابية؟
- سلامة اللغة العربية ودقتها، تَفرّد الأسلوب، فكل مَن يُقلّد هو مهما بلغ لا يرتقي لأكثر من صدى، والصدى كلما توغّلَ يصبح باهتًا؛ هذا ما يخص الشعر وبقية الفنون الجمالية والمعرفية، أما ما يخص أدب الرحلات، فأضف لها التفاصيل والمعرفة العميقة بالتاريخ والثقافة الجغرافية، أي ثقافة الـمنطقة الجغرافية التي يتناولها كاتب أدب الرحلات، وقوة الـملاحظة، وإجادة إشراك القارئ في السرد، من خلال النجاح في منحه شعورًا بأنه شريك في هذه الرحلات، وأعدّ نفسي محظوظًا، لأن عشرات إن لم يكن مئات القـرّاء ذكروا لي أن شعورًا ينتابهم حين يقرأون لي بأنّهم مرافقون لي في رحلاتي.

أحرص على تسجيل الدهشة الأولى في الـمكان، وألتقط صورًا للأمكنة والطيور والناس وأوثّق الحالات التي أخشى نسيانها حين أعود للسكن ليلًا، لهذا أعدّ أرشيف صوري مرجعًا مهمًّا لي في أثناء الكتابة، لا يقل عن ملحوظاتي التي أدوّنها يوميًّا، وحين أعود لمستقري بعد انتهاء الرحلة، تبدأ مرحلة البحث في الكتب والمواقع الأكاديمية الرصينة، وأقارن بينها وبين ما دوّنته من مشاهداتي وأحاديثي مع الناس، ولا أمنح ثقتي كلها للباحثين الغربيين، لإيماني أن الـمركزية الغربية، ليس بإمكان باحث مغادرتها تمامًا، وهو ما التفتَ إليه بعض الأكاديميين مثل الدكتور محمد أحمد الـمسعودي والدكتور بوشعيب الساوري وكلاهما من الـمغرب، فهما أوضحا أن كتاباتي نجت من هيمنة نتائج البحوث الغربية، وهي ميزة كتابية مهمة، فضلًا عن الـمميزات الأخرى مثل الاهتمام بالأسلوب والتفاصيل ودقة الـمعلومات وإبداء رأيي الشخصي.

• منتصرٌ للهامش من الناس والدول والحياة، لماذا هذا الانحياز، وهل حقاً أشبعت المتون بحوثًا ودراية؟
- الـمتون مباحة للجميع، بل صار يعرف الكثير عنها حتى الذي لا علاقة تربطه بها، والـمتون هنا دول وأديان ومذاهب وقوميات، لكن الهوامش أو الأطراف مجهولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن أكثر ما يُقلقني ويقضّ مضجعي هو التقليد، لا أطيق التقليد، وأؤمن أن التفردَ يجب أن يكون في كل شيء، في القراءات والسلوك والترحال والـملبس، فضلًا عن أن هذا الانحياز هو تلقائي، قد يكون السبب طفولتي التي بقدر ما كانت مملوءة بالحرمان بقدر ما كانت تربية جدتي لي فيها حكمة كبيرة، جعلتني أتعاطف مع الهامش وأجدني منتميًا له على الرغم من كوني سليل أسرة عريقة في مدينتي كربلاء، فضلًا عن عراقتها – أي أسرتي - في التاريخ العربي والإسلامي.

تجاهل الهامش، جعله يدافع عن نفسه بخلق سرديات فيها تضخيم للذات حدّ الـمبالغة الـمهولة، نحن نجهل الشرق الذي تربطنا به أواصر كثيرة، ونجهل شركاء الوطن وهنا الكارثة، نتحدث عن أهمية التنوع، وأنظمتنا القومية الثورية أساءت إدارة التنوع، ونادرًا ما تجد من مثقفينا مَن يهتم بمعرفة شركاء الوطن، نسبة الأمية في شركاء الوطن وتاريخهم وهجراتهم إلى العراق متساوية بين الأنظمة السياسية ومعارضيها الـمدافعين عن شركاء الوطن، دفاعهم عاطفي لا علاقة للعلم والمعرفة به.

قلة قد تكون نادرة، مَن اهتمُّوا بتاريخ الجماعات العقائدية واللغوية وهجراتهم الأخيرة إلى العراق، وانتشارها في الـمدن، ولم يكتف بسردياتها بل قرأ السرديات كلها وقابل بينها وأدخلها في مختبر التحليل والتفكيك، لا سيما أن نقطتين أساسيتين ومهمتين للغاية يتميز بهما العراق وكذلك بلاد الشام أي الهلال الخصيب، النقطة الأولى التدوين، وهو ما يجعل الأقوام التي تفتقر لمنجز تدويني ضخم بلغتها قبل الحرب العالمية الأولى، حديثة عهد بالهلال الخصيب الذي تتميز مدنه وبلداته – وهذه هي النقطة الثانية الـمهمة – بأنّ نسيجها السكاني اجتماعيٌّ من البيوت والأسر وليس من القبائل، وعادة تأخذ هذه البيوتات صفة وظيفية أو مهنية مثل الدفتردار والوردي والصائغ والكاتب والعلاف وأبو الصوف وما إلى ذلك من ألقاب، كذلك نسبة إلى كتاب مثل بيت الجواهري وكاشف الغطاء وبحر العلوم، أو نسبة لحادثة ما وتركت أثرًا ما، وهذه البيوتات والأسر، تمتد جذورها في المدينة أو البلدة لأجيال وأجيال، وهي الـمسيطرة ثقافيًّا واقتصاديًّا، وتمنح صبغتها الثقافية للمدينة.

من هنا وجدت أن الطريق الأمثل لتخفيف حدة التوتّر والتطرف والـمبالغات التي قدمت استقالة للعقل والعلم، وجعلَت الخيال الإثني أو العقائدي هو الـمتحكم بالدراسات والبحوث، أقول إن الطريق الأمثل هو الـمعرفة ثم الـمعرفة، يجب أن يتحمل الـمثقف العربي مسؤوليته الأخلاقية، فيبذل جهدًا طيبًا في معرفة شركاء الوطن تاريخًا وثقافة؛ وشخصيًّا قضيت أكثر من ربع قَرن وأنا مهتم بالآخر القريب أي شريك الوطن، وبالآخر البعيد الذي ذهبت له لأتعرف عليه عن قرب، لهذا شاركتهم طقوسهم مثلما شاركتهم طعامهم، حتى صرت "الغريب الذي أصبح واحدًا منهم".

• جبت كل القارات، أي البلاد أقرب إليك، وما هي البلاد التي تحب زيارتها؟
- أقرب البلاد هي "هيروشيما" و"الخرطوم". في هيروشيما تذوقت لأول مرة حرية أن أختار مكانًا أقيم فيه، وسحرتني بأنهارها الستة، والـمعجزة اليابانية التي حولت هيروشيما من كوم رماد إلى واحدة من أجمل الـمدن، ومنها تعلمت أنه ليس مستحيلًا علينا أن نحوّل مناطقنا التي تعرضت للقصف والتدمير إلى حدائق غَنّاء كما فعلت هيروشيما، وأيضًا تعلمت من اليابان أن الانفتاح على الـمنجز "الأوربي الغربي" لا يعني فقدان لغتنا العربية والإساءة لها عبر التباهي بمناسبة ومن دون مناسبة بتلويث أفواهنا بكلمات إنجليزية وفرنسية، حتى وصل الهوان بنا أن كلمات هم استعاروها منا تركنا أصلها العربي ورحنا نرددها كما يلفظونها مثل صفر الذي أصبح "زيرو" ومقهى التي أصبحت "كافيه" أو كوفي شوب"، وقهوة التي أصبحت "كوفي" وعشرات إن لم يكن مئات الـمفردات الأخرى، وأصبحنا لا نتباهى بسلامة لغتنا العربية، وثقافتنا بتراثنا ومنجزنا، بل نتباهى بالإنجليزية أو الفرنسية وبقراءاتنا للأدب الغربي.
أجمل البلدان تلك التي لم أزرها بعد، مع الاعتزاز بناظم حكمت.

• مرحلة هيروشيما مرحلة جذابة جداً، لماذا ذهبت إلى هيروشيما وكيف تلخصها بعد هذه السنوات؟
- جاء الانتقال للعيش في هيروشيما بلا تخطيط، فرصة جاءت واغتنمتها وعشت ثلاثة أعوام من أجمل أعوام العمر، كانت فعلًا مرحلة جذّابة، وفيها حدثت انتقالة كبيرة في تجربتي الشعرية، وفي كثير من مفاهيمي، إذ علمتني التجربة اليابانية، أننا يمكننا أن نلحق بركب الحداثة وفي الوقت نفسه نحافظ على خصوصيتنا الثقافية. اليابانيون أجادوا مسك العصا من الوسط، انفتحوا على منجزات "الغرب" وفي الوقت نفسه تشبثوا بهُويتهم، كانت مرحلة الانغماس الحقيقي بالمجتمع الياباني، ومعرفة سلبياته الـمجهولة عند معظم الناس، فاليابان ليس كوكبًا آخر إلّا لمن يجهله، حتى لو كان يعيش في وسطه؛ أيضًا مرحلة هيروشيما مملوءة بالـمرح والـمتعة والـمعرفة، وكانت فاتحة لطريق الترحال الطويل.

• اليوم ومع وسائل التواصل ووجوب الظهور المتكلف أحيانًا، كيف ستتدبر الأمر مع شخصيتك الخجولة إن جاز لي التسمية؟ وكيف ينظر باسم فرات إلى الميديا الجديدة؟
- لا بدّ من إبداء الإعجاب أنك استطعت قراءة شخصيتي الخجولة. الخجل لازمني طوال حياتي، ولكني أعترف أنني في الأعوام الأخيرة، أفضل بكثير قياسًا بما كنتُ عليه قبل عشرين وثلاثين عامًا؛ الخجل مع الصدق سببا لي مشاكل كثيرة، منها استغلال بعض "الأصدقاء"، وما زاد الطين بلّة ولظروف خاصة جدًّا، كنتُ مؤمنًا أن شكلي وصوتي قبيحان، وهما كانا مانعين قويين لقلة استعمالي للتقنيات الحديثة، لكن مشكلة "الشكل" تخلصت منها قبل سنوات، أما الصوت فيمكن القول إنني تخلصت منه هذا العام فقط.

إن التطور الـمذهل بتقانة التواصل بعامة ومواقع التواصل الاجتماعي بخاصة، منح فرصًا متساوية، لجميع طبقات الـمجتمع، حتى أصبح كثير من "التافهين" نجومًا في وسائل التواصل، والخطورة تكمن من تشكل رأي عام بعيد عن الـمصداقية، ولأني مهتم كثيرًا بتاريخ التنوع وهجرات غير العرب الـمسلمين للعراق بخاصة ولبلدان عربية أخرى بدرجة أقل، كما أوضحت في مكان آخر، فإن هذه الوسائل منحت مقدرة هائلة للعنصريين والـمتطرفين والإقصائيين أن يبثوا أوهامهم وسمومهم بين الناس حتى أن بعضها تحول إلى مقدس، فضلًا عن الجيوش الإلكترونية التي تهاجم كل مَن يرفض التزييف والتطرف والكراهية.

• من الشعر البداية وإلى الشعر، هل أثرت مشاريعك الأخرى على إنتاجك الشعري، ما هو مفهوم الشعر لديك، ومن تحب وتقرأ من الشعراء؟
- الشعر بحاجة للقراءة دائمًا، وبعض القراءات تقود في اتجاهين كلاهما يُثري الآخر، الاتجاه الأول يتمثل في الحفر عميقًا في التجربة الشعرية الخاصة، من أجل أن لا يكرر الشاعر نفسه كثيرًا وبإسفاف، فضلًا عن حُلم التطوير والتجدد والتفرد في الـمشهد الشعري، والاتجاه الآخر، في التدوين، وقد يتمثل هذا التدوين في مقالات أو تحقيقات صحفية، أو في رواية أو قصة أو مسرحية، أو يتمثل في البحوث والدراسات، وشخصيًا أعتقد أن تنوع اهتماماتي القرائية، وانتقالاتي بين أحضان ثقافات متنوعة ومختلفة، ومعايشتي لهذه الثقافات لدرجة الاندماج، ضخّت دماءً متجددة في قصيدتي. أما مفهوم الشعر لديّ، فصدقًا أراني وعلى امتداد عمري، أحاول أن أتهجى الحرف الأول في أبجديته، ولم أوفّق للآن، لأن الشعر بوصفه مشروع حياة، إذا ما قُنِّنَ ضاق وتلاشى، لأن كل مُقَنّن محدود، وكل محدود متلاشٍ، والشعر منفلت لا يسعه حتى فضاء الحرية نفسه.

مثلما أؤمن أن لكلِّ الأمكنة جمالها، ولكلِّ العقائد جوهر حَسِن، كذلك الشعراء، فليس من شاعر كل شعره متواضع، وليس من شاعر كل شِعرِهِ مُبهر ومُدهش، وأن الدهشة لا بدّ وأن تكون موجودة في قصيدة ما، أو حتى في مقطع من قصيدة، وإذا كانت تجارب الأجيال التي سبقتنا منحتنا الدهشة والخبرة، فإن تجارب جيلنا والأجيال الأصغر سنًّا فيها من التنوع الكثير، ودائمًا في تجارب الشباب الجرأة في التجريب، ودهشة البدايات، إنني أقرأ للجميع، وأتعلم من الجميع، وكل شاعر يكتب نصًّا مُدهشًا، فهو أستاذي أتعلم منه، حتى لو كان دون العشرين بسنوات أو كان طفلًا.

• هل تفكر بالعودة إلى العراق؟
- هذا حلم لم يفارقني، حتى حين كنت أنوي مغادرة العراق، كان هدفي أن أعود للعراق للاستقرار بعد زوال الـمسببات، لكن من "موبقات" الـمنافي أنها محظوظة بوجود الخراب في بلداننا، وهذا لا يمنع أن أحقق حلم حياتي يومًا، وهو العيش في رحاب بغداد، فلقد زرت مئات الـمدن ولم تستطع واحدة منها أن تغريني لتكون حلمي في الاستقرار مثلما هي بغداد، وكلما أزور العراق وأتجول في بغداد وأراها أفضل من المرة الـماضية، أشعر أن جزءًا من يُتمي يتوارى، وأن جزءًا من منفاي الطويل يُقضَم، ولولا متطلبات العيش، لعدت وأقمتُ في بغداد مدينتي الحلم منذ الطفولة.

• وكيف تتصور المنطقة بعد عقد من الزمن؟
- أنا شخص متفائل، أملي كبير أن القادم أفضل، وحين أقارن بين بغداد التي رأيتها أول مرة عام 2011 ميلادية، بعد غياب حوالي عشرين سنة، وبغداد عام 2024 ميلادية، فإنني أزداد تفاؤلًا بأن العقد القادم أجمل.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :