لم تكن الطفلة التي حملت شقيقتها لمسافة تزيد على كيلومترين باتجاه خيمة عائلتها، أول أطفال غزة ولا آخرهم، الذين أكدوا بل أثبتوا للعالم أن أطفال غزة ليسوا أطفالا، إنما عمالقة بإدارة الحياة مهما كانت ظروفهم، ربما ليس قدرة بقدر ما هو تمكّن من التعامل والتكيّف مع ظروف الحرب، التي أخرجتهم تماما من طفولتهم، وخصوصية هذه الفئة العُمرية.
سارت الطفلة الغزّية النازحة التي انتشرت صورها، ومقطع الفيديو، وهي تسير حافية القدمين تحت أشعة الشمس الحارقة، وتحمل شقيقتها المصابة لمسافة تزيد على كيلومترين باتجاه خيمة عائلتهما، تحمل في تعابير وجهها حكاية أطفال لشعب قتلت به إسرائيل كل معاني الحياة وكل تفاصيل الطفولة، لم تبق لهم شيئا بدءا من كتبهم المدرسية ومدارسهم، وصولا لألعابهم التي احترقت ومعها احترقت قلوب مئات آلاف الأطفال في غزة، الذين باتت نسبة كبيرة منهم يعانون بترا بأطرافهم، أو جروحا خطيرة واصابات، أو يموتون جوعا وعطشا، ناهيك عن الآلاف منهم ممن فقدوا أسرهم، أو عددا من أفرادها، أو قضوا شهداء، وما الطفلة التي تابعنا مقطع الفيديو لها وشقيقتها سوى رمز لأطفال ليسوا بأطفال.
جرّدت إسرائيل أطفال غزة من تفاصيل حياتهم، وطفولتهم، حمّلت هذا الجيل مستقبلا بنكهة الظلم، ورسالة الحقد والبحث عن درب لينالوا حقهم وحق عائلاتهم، سيما من رأوا أفرادا من أسرهم يقضون نتيجة قذيفة أو صاروخ أو رصاصة الاحتلال، فقد تخزّن بذاكرتهم مشاهد حتما لن تُحمد عُقباها في مستقبل ليس ببعيد، مستقبل أقرب من أي تقديرات إسرائيلية لمدد زمنية وضعوها لخططهم ظنا منهم أنهم انهوا نضال شعب، أو انهوا قضية فلسطين، والحقيقة أنهم في حربهم على الأهل في غزة، بدأوا بواقع جديد للأسف مشبع بالظلم والقهر، ما يجعل من القادم خطيرا بكل ما في الخطورة من تفاصيل.
قصص أطفال غزة بمعاناة مختلفة التفاصيل، تبدأ ولا تنتهي، وفي كل قصة نشعر بوجع للقلب يدمي قلوبنا ويشعرنا بحالة ضعف مؤلمة، نقرأ عن نور التي فقدت أفراد أسرتها ولم تبق سوى جدتها التي ترافقها في رحلة علاجها من مرض السرطان، وعشرات الأطفال في المستشفيات «بلا اسم» فقد قادهم أشخاص وجودهم في الطرقات، وطفلة أخرى تحمل اسم نور أيضا تحلم بلقاء شقيقها في الجنة، وغيرها من آلاف المشاهد التي تدمى لها القلوب، وإسرائيل ماضية في إجرامها وحربها، لا تتوقف ولا تراعي أي خصوصية إنسانية وأخلاقية لأطفال أو نساء أو مدنيين أبرياء، متناسية أنها تتعامل مع شعب لا ينهزم ولا يُقهر، ولا يترك حقه وفلسطين وأرض فلسطين حق لن يتنازل عنه هذا الشعب الجبّار، الذي جرّدت إسرائيل حتى أطفاله من طفولتهم، ظنّا منها أنها تنهي بذلك قضية وتدفن حقا وتقضي على تاريخ وحقيقة فلسطينية ثابتة يحميها الأطفال قبل الكبار.
الجانب الإنساني، ملف حمله الأردن منذ أكثر من عام في غزة، وحمله تاريخا كاملا للقضية الفلسطينية، محذرا من اقتراف مجازر إنسانية، واقتراف جرائم إبادة ومجاعة، لأن كل هذا نتائجه خطيرة على المنطقة والعالم، دون الأخذ بهذه التحذيرات من إسرائيل على محمل الجد، وحتما إن غدا لناظره في غزة لقريب، وستدفع هذه الجرائم بأطفال غزة نحو مزيد من الصمود والنضال، فالظلم ظلمات، والقهر لا يؤدي سوى لثبات على القضية، وهو ما تغفله إسرائيل في جرائم حربها التي دفعت بالطفلة النازحة وغيرها الآلاف من حمل أحدا من أفراد أسرهم من مكان لآخر، لا تشعر بثقل من تحمل، فما تحمله معنويا ونفسيا أثقل بكثير من وزن ما تحمل من شخص أو متاع .
الدستور