خلال شهور مضت، أخرجت الأرض الأردنية معظم، إن لم نقل كل تفاصيلها السياسية والمطلبية، بل كل شيء. فالجميع، من القوى السياسية والاجتماعية والأشخاص والحركات الجديدة، أو حتى بعض التفاصيل الداخلية للحركات والتنظيمات، خرج وتحرك، وقال كل ما يريد.
مرحلة خاصة تذكرنا بالمرحلة التي كانت قبل انتخابات العام 1989، عندما تم فتح كل الأبواب والنوافذ. وقتها انتفت صفة التنظيمات السرية عن الجميع، وأصبح كل شيء متاحا ومباحا، وقالت القوى السياسية والناس كل مايريدون. وجرت الانتخابات وقتها، وقال المجلس كل ما يريد ويريد الناس. وكان الفساد هو القضية الأبرز، وتم آنذاك إنهاء كثير من الأمور التي ارتبطت بالأحكام العرفية. وكانت أول حكومة دخلت ذلك المجلس حكومة مضر بدران التي حصلت على ثقة المجلس، بما في ذلك رضا الإخوان المسلمين الذين وضعوا شروطا للثقة ثم دخلوا ذات الحكومة في تعديل تم عليها من خلال خمس حقائب، ولمدة ستة أشهر انتهت في منتصف حزيران (يونيو) من العام 1991، ليأتي طاهر المصري رئيسا لحكومة كان وصفها من المعارضة أنها حكومة التسوية مع إسرائيل، وتمت في عهدها المشاركة في مؤتمر مدريد قبل أن ترحل بعدما كانت على وشك الترحيل من النواب، مع إشارة إلى أن مجلس النواب الحادي عشر، ورغم كل ما قال عن الفساد، لم يحاكم إلا مسؤولا واحدا من رتبة وزير.
المراحل ليست متشابهة تماما، وإن كانت هناك تقاطعات، وإن كان ما نعيشه اليوم متأثرا بحالة عربية. واليوم الجميع عبّروا عن كل ما يريدون، وتحدثنا جميعا بكل شيء، ولم تبق أي قضية كان يتم الحديث فيها همسا أو في غرف مغلقة إلا وأصبحت مادة سياسية وجزءا من بيان، أو تصريح، أو ندوة، أو مكتوبة على يافطة، أو تحدث بها طرف أو شخص بحماس على ميكروفون فعالية أو فضائية أو اجتماع ساخن.
حتى ما كان يصنف أنه خطوط حمراء تم تجاوزه والحديث به. وفتحت أجواء المرحلة شهية البعض للحديث بلغة جديدة ولهجة سياسية مناقضة لما كان هذا البعض يتحدث به قبل هذه المرحلة. وهنالك قوى امتلكت لغة عبر عقود لكنها تخلت عنها، ربما لأنها اعتقدت أن ما كان يدفعها لتلك اللغة "القديمة" قد ذهب، وأن ما كان لن يعود؛ اختلفت الحسابات فاختلفت اللغة، بل تغير النهج.
المرحلة كانت غنية بكل شيء. وهناك حركات جديدة ظهرت، وأخرى كانت محظورة قدمت نفسها في الشارع والإعلام. مرحلة لم يعد فيها ثمن للقول والفعل، بل تغري أيا منا برفع الصوت والنشاط السياسي واتخاذ أي قرار.
مرحلة جديدة يمكن لأي باحث أو راصد أن يقرأ من خلالها تفاصيل دقيقة للحالة الأردنية. وأصبح واضحا كل ما يدور في الأذهان والعقول وحتى القلوب. وهناك مشاعر ربما بذل البعض جهدا كبيرا لعقود في إظهار عكسها، وجدت لها طريقا في هذه المرحلة.
المراحل الاستثنائية تقدم لصاحب القرار وحتى المتابعين فرصة كبيرة للدخول في تفاصيل الدولة وفهمها ومعرفة تضاريسها الحقيقية، فضلا عن نقاط الضعف والقوة. وهي المرحلة التي تظهر أيضا من يملك الحكمة ولغة العقل والاتزان، والتي لا يمكن من دونها أن نحول كل صدقنا وغيرتنا على وطننا إلى فعل يبني الأردن الجديد.
الغد