مثل أي ظاهرة اجتماعية أخرى تأمل الفلاسفة ظاهرة الدولة، ذلك أن الدولة كانت منجزاً بشرياً قبل نشوء الفلسفة، فالفلاسفة ومنذ طاليس الملطي قد بدأوا بتأمل العالم من حولهم، بما فيه من ظواهر طبيعية وأخرى إجتماعية إنسانية، فكانت الطبيعة هي محل التأمل الأول لفلاسفة ما قبل سقراط، الذين حاولوا البحث عن العنصر الأول أو المبدأ الأول للوجود، فقدموا إجاباتهم المتباينة لسؤال الفلسفلة الأول بين قائل بالماء وآخر بالهواء وثالث بالابيرون أو اللامتعين.
ومنذ سقراط اتجهت الفلسفة من سؤال المبدأ الأول للوجود المادي إلى البحث في الظواهر الإجتماعية والإنسانية، ومنها ظاهرة الدولة، ومنذ ذلك الحين إلى اليوم قدم الفلاسفة جهودا فكرية عظيمة في محاولة فهم هذه الظاهرة الإنسانية التي عرفها البشر مبكرا منذ أن نشات الحضارات.
وبالمجمل فإن مجرى التفكير الفلسفي في الدولة قد تفرع إلى تيارين فلسفيين كبيرين هما الواقعي والمثالي. أما تيار الفلسفة الواقعية فقد اهتم بالفهم والتحليل للدولة بما هي واقع قائم يسعى الفلاسفة الى فهمها وتحليلها والتفكير بكيفية عمل مؤسساتها وتحليل سياساتها وقوانينها وإجراء الدرسات المقارنة بين مختلف نظمها السياسية ومحاولة إصلاحها.
ولعل أرسطو هو الذي افتتح الحديث في هذا الباب الكبير من البحث الفلسفي الواقعي إذ ركز في كتابه "السياسة" (Politics) على دراسة الأنظمة السياسية المختلفة وميز بين أنواع الدول (الملكية، الأرستقراطية، الديمقراطية). وأكد على أهمية المصلحة العامة في الدولة ورفض التوجهات الاستبدادية.
أما تيار الفلسفة المثالية فلم ينصرف كليا إلى هدف الفهم والتحليل للدولة بما هي واقع بل بما يجب أن تكون عليه من خلال التفكير في دولة مثالية "إفتراضية" يحكمها العقل والقيم العليا، وهي دولة اليويتوبيا التي كتب عنها أفلاطون في كتابه الجمهورية (The Republic) الذي قدم فيه تصورًا مثاليًا للدولة حيث يحكم الفلاسفة، لأنهم يمثلون الحكمة والعقل. فالدولة المثالية عند أفلاطون تتكون من ثلاثة طبقات: الحكام (الفلاسفة)، المحاربين، وعامة الناس، وكل فئة لها دور محدد لضمان التوازن والعدالة.
وقد كرستُ سلسة المقالات هذه للكتابة عن فلسفة الدولة حيث سأتناول في قادم المواضيع مراحل تطول التفكير الفلسفي في الدولة منذ الأغريق حتى تيارات الفلسفة المعاصرة.