هذا المساء، في قلب بخارست، حيث تصطف الذكريات كأنها سربٌ من العصافير يرفرف في سماءٍ مليئة بالألوان، أحسست بأنني أعيش لحظةً مميزة. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة إلا الربع، وبدأت رائحة الهواء تتغير، تنبعث منها نغمات الماضي وتفاصيله الموجعة. أرصفة الشوارع لم تعد تمتد كما اعتدت، وكأنها تحاكي فراغات الروح، تفتقد زخم الحياة وروحها.
في الأفق، كان القطار ينطلق، حاملاً معه أحلامنا وآمالنا، مُحرراً خيالنا الجامح. كانت الجارا تموج بالقطارات، وكأنها تروي حكايات الرحيل، وسيلٌ كبيرٌ يجرفنا بعيداً عن الواقع، مُعيداً صياغة الليل الذي يخفق في المجيء. نظرت إلى السماء، فوجدت أن لون الغيوم يميل إلى الأحمر قليلاً، كأنها تحمل في طياتها غصة الماضي.
إلى جانب النهر، كان الدانوب ممتعضاً، يضرب نفسه كما لو كان يعبّر عن ضجره من الشكوى المتكررة. تتشابه المدن الحزينة في مجيئها، وتلك هي طبيعة الحياة. منذ خمسة آلاف يوم، أرى بخارست تُضيء الشموع، تأخذنا كلفائف الملفوف لتحتسي شيئاً من القهوة مع نيكولاي، ذلك الصديق الذي لم يبتعد عن ذاكرتي رغم السنوات. أشعر بالفقر والجوع، وأرى الطوابير الطويلة التي لا تنتهي، وكأن الذئاب تطاردنا في كل زاوية، تذكرنا بألم الفقدان.
ومع حلول الساعة الخامسة إلا الثلث، كانت الريح تحملني إلى سهلٍ فسيح، حيث الأرانب لا تخاف، تقفزُ كالأساطير. الشمس كانت توشك أن تطل برأسها، وكأنها تُنذر ببدء يوم جديد. كانت تلك اللحظات هي جوهر الحياة، حيث نختبر الفرح والحزن معاً، نعيش الأمل رغم كل ما يحيط بنا من ظلام.
بخارست، المدينة التي لطالما كانت ملاذاً للذكريات، لا تزال تحتفظ بأسرارها، كأنها تخبئ في شوارعها قصصاً لا تُحكى. كل ركن فيها يحمل عبق التاريخ، وكل زاوية تنبض بحياة أولئك الذين مروا بها، تاركين وراءهم بصمات لا تُنسى.
عندما ننظر إلى المدن، نجد أننا لا نراها كأمكنة فحسب، بل ككيانات حية تتنفس معنا. كل شجرة، كل حجر، وكل نهر يحكي قصته الخاصة. في بخارست، تغمرني هذه القصص، وأشعر أنني جزء من هذا النسيج الواسع.
في ختام هذا المساء، أدرك أن الذكريات هي ما يبقينا على قيد الحياة. تلك اللحظات الصغيرة التي تظل عالقة في أذهاننا، هي التي تصنعنا وتعيد تشكيل هويتنا. وبخارست، بذكرياتها وحكاياتها، تبقى منارةً في ليالي العمر، حيث يستمر السرب في الطواف في سمائي، يحملني بعيداً إلى حيث أريد أن أكون.