نهاية المعرفة .. حين تتحدث الكتب .. ويصمت العقل ..
محمود الدباس - ابو الليث
20-10-2024 10:07 PM
"لا تأخذوا العلم من صُحُفي.. ولا القرآن من مُصحَفيّ".. هذه المقولة القديمة.. تلخص خطراً حقيقياً.. فالصُحُفي هنا ليس من يعمل في الإعلام.. بل هو من يأخذ العلم من الكتب.. دون أن يتتلمذ على أيدي أهل المعرفة.. وكذلك المُصحَفيّ.. الذي يقرأ القرآن.. دون أن يدرك معانيه أو يتأمل في تفسيره.. هؤلاء يعتمدون على النصوص وحدها.. دون أن يعبروا مراحل الفهم العميق.. والتفكير النقدي..
في عصرنا الحالي.. حيث تفيض المعرفة عبر الإنترنت والكتب والمنشورات.. يظهر من يظنون أنهم "علماء" لمجرد قراءتهم بعض النصوص.. أو مشاهدتهم لبرامج ليتها حوارية بين اضداد.. ولكن.. كما أن القراءة وحدها لا تصنع الطبيب.. فإنها أيضاً لا تصنع المفكر.. فهؤلاء الذين يكتفون بالصحف والمنشورات من مصدر معين.. دون أن يتعلموا على أيدي أهل العلم.. يعانون من مشكلة أعمق مما يدركون.. وهي ضيق الأفق.. وعدم تقبل الرأي الآخر..
فهم يقرأون ويتعلمون.. ولكن من مصدر واحد.. دون المرور بمراحل التمحيص والمراجعة.. فتجدهم يحملون قناعات راسخة.. كأنها حقائق لا تقبل الجدل.. لأنهم لم يتعلموا فن الحوار.. ولم يدركوا أهمية النقد والمساءلة.. لذلك.. عندما تعرض آراؤهم للنقاش.. يتحول الحوار إلى معركة.. عقولهم مغلقة لا تتسع لفهم أفق أوسع.. ويظنون أن ما يعرفونه هو الحقيقة المطلقة.. متجاهلين أن المعرفة ليست ملكاً لهم وحدهم..
مصيبة هؤلاء لا تقف عند حدود ضيق الأفق.. بل تتعداها إلى الأثر السلبي الذي يتركونه على المجتمع من حولهم.. هم ليسوا فقط عاجزين عن التعلم.. بل يعرقلون الآخرين.. يتسببون في نشر الجهل ورفض الأفكار الجديدة.. فهم لا يدركون أن تمسكهم بآرائهم دون تقبل للنقد.. يجعلهم قوة معطلة.. لا تسهم إلا في تقويض الفهم الصحيح للأمور..
فكم من هؤلاء نراهم في السياسة؟!.. شخص قرأ مقالاُ أو شاهد برنامجاُ.. فأصبح فجأة مفكراُ سياسياً.. يطرح أفكاره وكأنها مسلمات.. ولا يدرك أنه يرى جزءاً صغيراً من الصورة الكبيرة.. ومع ذلك.. يصر على فرض أفكاره وكأنها الحل النهائي.. غير واعٍ بضرر أفكاره غير المكتملة على من يستمعون إليه..
وفي الحياة الاجتماعية.. نجد ذات العقلية الضيقة.. شخص يحكم على الآخرين من منظوره الخاص.. دون أن يدرك أن ما يبدو له صحيحاً.. قد يكون خطأً في سياق ثقافة أو ظروف مختلفة.. هذا الخلط بين القناعة الشخصية.. والحقيقة المطلقة.. يعرقل التفاهم.. ويعزز من الفجوة بين الأفراد والمجتمعات..
قصة عنترة بن شداد حينما هرب من الثور.. تلخص هذه الفكرة.. عنترة لم يهرب خوفاً.. بل لأن الثور لا يعرف من هو عنترة.. وهكذا.. من يمتلك المعرفة المحدودة.. قد يهزمك بجهله.. لأنه لا يدرك حجم خطئه.. ولا يرى حدود معرفته.. والأسوأ من ذلك.. أنه يؤثر على من حوله.. ويجرهم إلى ذات الضيق الفكري..
ولذلك.. على هؤلاء أن يتحملوا مسؤولية ضيق أفقهم.. وتأثيرهم السلبي على من يستمع إليهم.. فالعلم والفكر ليسا معلومات محفوظة.. بل رحلة تفاعلية تتطلب نقاشاً وتحليلاُ.. وعليهم أن يفتحوا عقولهم للنقد والتفكير من جديد.. وأن يدركوا أن العالم لا يتوقف عند حدود رؤيتهم الضيقة.. وأنهم بسلوكهم هذا.. ليسوا فقط يعطلون تطورهم الشخصي.. بل يعطلون من حولهم أيضاً..