facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss




نظرية "المسرحية" .. ولوم الضحية .. !


علاء الدين أبو زينة
19-10-2024 11:54 PM

في التاريخ الطويل للنضالات التحررية المناهضة للاستعمار، ثمة دائمًا أولئك المحبَطون المثبِّطون، الملبسون أنفسهم عباءة الحكمة والعقلانية. وعمل هؤلاء هو تهبيط المعنويات والتشنيع على النضالات، وإثارة مختلف أنواع النعرات، وازدراء المقاومين، والتشكيك حتى في نزاهة الشهداء الذين يرتقون في الاشتباك. ودائمًا يستدعي هؤلاء ضعف الحال وتصغير الذات أمام القوة الهائلة للمستعمِر والظالم، وتصوير المقاومة على أنها انتحار. وفي أحسن الأحوال، يستدعي هؤلاء ذريعة حفظ الرؤوس والأوطان، حتى بينما كل الرؤوس، بوضوح لا تخطئه عين في السياق الراهن، سواء كأهداف.

هذه الأصوات، سواء عن وعي أو من دونه، تجنّد نفسها كأدوات لتكريس الهيمنة بتضخيم قوة العدو لتبرير الخضوع، وربما توصي بانتظار انقلاب قدَري للموازين بينما تجري في وقت الانتظار إمالة الميزان عليهم وعلى مواطنيهم ومستقبل أولادهم. ولو ساد منطق هؤلاء المثبطون –المعزولون غالبًا لحسن الحظ- لما تحرر شعب من نير استعمار، ولكان معظم العالم اليوم متنزهات للمركز الاستعماري.

إن تسفيه أحلام المناضلين الذين يضحون بأرواحهم نفسها من أجل الحرية والتخلص من الاستعمار والهيمنة في أوقات الاشتباك والصراع، يعبر عن خلل أخلاقي وإنساني في كيفية التفاعل مع الأحداث وتوصيف الضحية والجاني. من السهل أن ينزلق البعض إلى لوم الضحية أو تحميلها مسؤولية الأحداث، مغفلين -عن وعي أو غيره- حقيقة أكبر وأكثر أهمية: أن الجاني هو الذي بدأ دورة العنف، وهو المسؤول الأول والأخير عن معاناة الضحية.

عندما يشتغل هؤلاء بلوم الضحية، فإنهم يغيّبون الظلم الواقع عليها ويحرفون البوصلة الأخلاقية عن اتجاهها. ووفق مداخلاتهم، الشامتة في كثير من الأحيان، يصبح المعتدى عليه طرفًا يتحمل جزءًا من – أو كل- الجريمة التي ارتُكبت ضده. وكان الأولى بهؤلاء اللوامين التركيز على جرائم القاتل: على الأسباب الأصلية للصراع والدمار والموت، وعلى أفعال الجاني التي أدت إلى الاشتباك في المقام الأول.

كان ينبغي أن يستخدموا أدواتهم وفصاحتهم في التركيز على الدعوة إلى محاسبة الجاني لأنه هو الذي يحول حياة الضحية إلى جحيم.

من الضروري أن يحافظ المرء على وضوح البصيرة الأخلاقية في الحكم على صراع واضح المعالم، بين فسطاطين واضحين بأهداف واضحة. أحدهما بالتأكيد تحميل الضحية المسؤولية عن الجرائم التي ترتكب ضدها، وبذلك الاصطفاف الصريح مع الجاني ومساعدته في الإفلات من اللوم – والعقاب إذا كان ثمة إمكانية للعقاب.

لم تكن قوى التحرر في أي وقت ندًّا لقوى الاستعمار أو الأنظمة الاستبدادية. لكنها تقيم قضيتها على أساس أن قوة الظالم والمعتدي، وإن كانت حقيقية، فإنها ليست مطلقة. وبخلاف ذلك يتم تجاهل العديد من العوامل التي تشكل الصراعات –العزيمة الأخلاقية؛ شرعية القضية؛ والأهم: نقاط الضعف الكامنة حتى في أقوى القوى.

ثمة خيط رفيع بين الواقعية والانهزامية. الواقعية تعترف بصعوبة التحدي المطروح، لكنها تحافظ على فكرة إمكانية المقاومة. والانهزامية، تتنكر في ثوب العملانية، لكنها في جوهرها جُبن واستعداد للاستسلام. ويكشف تاريخ التحرر من الاستعمارات أن فقدان الهمة والانهزام سلفًا على أساس أن العدو أقوى بكثير ليس واقعية بقدر ما انهزامية. الواقعية تقيّم ديناميات القوة، لكنها أيضًا تدرك الفرص للمقاومة، وقوة الرأي العام، وإمكانية الاستفادة الاستراتيجية من الاشتباكات الظرفية. والانهزامية تغلق كل الأبواب، وتخنق روح التمرد وتخمد رغبة الحرية، وتحث الشعوب المضطهدة على قبول استعبادها.

في الوقت الراهن، ثمة معركة جارية، يعلن فيها عدوّ بائن أنه يريد تشكيل خريطة المنطقة، ومصائر أهلها، لتخدم مصالحه التي عنوانها التحكم والهيمنة والبطش. والخيار واضح: إما أن يعارض المرء هذا المشروع، أو يقاومه بالأدوات المتاحة لديه. وفي هذا الخيار، ثَمّ فكرة أن الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، بقوته العسكرية المتقدمة ودعمه غير المشروط من الولايات المتحدة والمركز الاستعماري، لا يمكن تحديه. ويقول أصحاب هذا الخيار أن المقاومة، في النهاية، مسعى عبثي لا يجلب إلا المزيد من المعاناة. وكأن المعاناة من استعمار استيطاني إحلالي، يزدري علنًا كل كيان وفرد في المنطقة ويستهدف إخضاعه، ناهيك عن إبادة الفلسطينيين جسديًا وتاريخيًا، ونية التوسع والهيمنة، جنة لا ينبغي التفريط بها!

إن هذا الطرح، المتنكر في لباس الواقعية، يضفي الشرعية على الاستعمار، ويثبط أي مقاومة له تمامًا بينما هي في الاشتباك. إنه اقتراح أن على الدول والحركات العربية القبول بهيمنة الكيان ورعاته وتكييف مصالحها وفقًا لذلك، والسماح للولايات المتحدة والكيان بتحديد شروط السلام والحرب، بل وحتى احتكار تعريف الخير والشر. والقبول بهذا الترتيب هو تخلٍّ -ليس عن السيادة فحسب؛ بل أيضًا عن الحق في تقرير مصير شعوب المنطقة وتسليم لمستقبلها. وتصوير كل ما يجري على أنه “مسرحية” يلعب فيها المقاومون دور تسهيل تصفية القضية الفلسطينية والهيمنة على المنطقة العربية هو حرف للأنظار عن الفاعلين الحقيقيين المعروفين على تصفية هذه القضية، كمقدمة لتصفية بقية الأمن العربي والإرادة العربية.

لا ينبغي الخلط بين القوة والشرعية. إن هيمنة الثكنة العسكرية الصهيونية المتقدمة والمعسكر الذي تخدمه تُبنى على القوة والقسر وفرض قيم ومصالح خارجية على منطقة لها تاريخها العميق وعلى سلامة هويتها الثقافية. وإذا كان لا بد من الإشارة إلى القوة، فإنه ينبغي التركيز على عدم الشرعية، وهو ما سيفضي منطقيًا إلى ضرورة مناهضة غير الشرعية، حتى لو كانت تمتلك القوة. وعكس ذلك هو تواطؤ في تجريد شعوب المنطقة من حقها في الكفاح من أجل تقرير مصيرها.

إن الأصوات التي تقوض حركات التحرر والمقاومة وتزين الاستسلام ليست قوى عكسية تحبط رغبة الحرية فحسب. إنها تخدم العدو. والشامتون بالضحايا والمستهزئون بالمنتفضين المشتبكين يسلبون المضطهدين من الأمل، وهو زاد الدفاع عن الحق في الحياة والحرية. ويغلب أن العدوّ ينظر بعين الإعزاز إلى هذه الأصوات. لكن المعزّي أنها أصوات معزولة غير متناغمة مع محيط من (المضلّلين) الذين يشجعون المقاومة في لحظة لا يجوز فيها تثبيطها، ويدركون أنها خط الدفاع الأخير عن المنطقة وشعوبها المستهدفة بالاستباحة.

في الشرق الأوسط المعاصر، حيث يتمتع أعداء العرب الواضحون بقوة هائلة، ليس السؤال ما إذا كانت قوتهم تبرر الاستسلام، بل ما إذا كنا سنجعل طريقهم إلى امتلاك مصائرنا أصعب أم أسهل. ويعلمنا الإرث الذي تركته حركات التحرر المناهضة للاستعمار أن الانهزامية هي الحليف الأكبر للعدو؛ أنه ما دامت هناك إرادة للمقاومة، فإنه يمكن تحدي حتى أقوى القوى، وفي النهاية إسقاطها. سيظل النضال من أجل الحرية والعدالة والكرامة دائمًا معركة تستحق أن تُخاض، مهما كانت الأضداد والاحتمالات.

الغد





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :