جرش والشتاء البارد وحضور الإمبراطور هادريان
مصطفى القرنة
19-10-2024 10:51 AM
في عام 126 ميلادية، كان الشتاء قارساً في منطقة الديكابولس، تلك الأرض التي شهدت تاريخاً طويلاً من الحضارات والنزاعات. كان البرد ينخر في العظام، لكن قلب المدينة كان ينبض بالأمل والتوقعات، حيث كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق للاحتفال بقدوم الإمبراطور هادريان. كانت جراسا، التي تقع ضمن هذه المدن الرومانية، في حالة من الحركة والنشاط، حيث اتحدت الجهود لجعل هذا اليوم مميزاً.
كان هادريان شخصية فريدة في تاريخ روما. يلقب بـ "الإمبراطور السائح" لأنه أمضى سنوات طويلة في السفر بين مختلف مناطق الإمبراطورية. اختار الهروب من صخب السياسة ومشاغل الحكم، واستمتع بالتواصل مع الثقافات المختلفة. كانت زيارته للشرق، وبالأخص لجراسا، تحمل في طياتها الكثير من الأبعاد. لم يكن هادريان ميالاً للحرب، بل كان يسعى لتحقيق السلام والاستقرار، ولذلك كان محط إعجاب الكثيرين.
لقد أدرك هادريان أن السلام في هذه المناطق يُعدّ أمراً حيوياً لاستقرار الإمبراطورية، لذا قرر أن يتواصل مباشرة مع المواطنين، ويستمع إلى احتياجاتهم ومشاكلهم. كان يتمنى أن يغرس بذور الازدهار في قلب جراسا، المدينة التي عانت طويلاً من النزاعات والحروب.
مع اقتراب موعد الزيارة، بدأت التحضيرات تجري في جميع أنحاء المدينة. كانت النساء يخرجن إلى الأسواق لشراء الأقمشة الزاهية والأطعمة الشهية. أما الأطفال، فكانوا يساعدون في تزيين الشوارع بالأعلام والأكاليل الخضراء، معلنين عن فرحتهم بقدوم الإمبراطور. أما الرجال، فقد انشغلوا في بناء المنصات وتجهيز أماكن استقبال الضيوف.
أصبحت كل زاوية في جراسا تنبض بالحياة، لكن البرد القارس كان يفرض نفسه بقوة. كانت الأمطار تتساقط بغزارة، مما جعل الكثير من السكان يشعرون بعدم الارتياح، لكنهم كانوا عازمين على مواجهة ذلك لأجل الاحتفال بالضيف المميز. كانت بوابة هادريان، التي اكتمل بناؤها حديثاً، تترقب قدومه، حيث تحولت إلى رمز للترقب والأمل.
تشعر بوابة هادريان بالنعاس، كأنها تعكس حالة المدينة بأسرها. كانت تلك البوابة تجسد الارتباط بين الماضي والمستقبل، بين الحكام والشعوب. إن تصميمها المعماري المميز كان يعكس عظمة الإمبراطورية الرومانية، لكنه كان أيضاً يرمز إلى تطلعات الأهالي نحو غدٍ أفضل.
تحت تلك البوابة، كنتُ أراقب الناس وهم يتجمعون في انتظار وصول الإمبراطور. كانت الهمسات تدور بين الحضور حول مسار هادريان، والوقت الذي قد يستغرقه للوصول. كانوا يتحدثون عن جمال جدارا، المدينة التي جاء منها، ويستعيدون ذكرياتهم عن الأوقات التي شهدت فيها هذه المناطق الكثير من الفرح والحزن.
ومع اقتراب الوقت، كانت المشاعر مختلطة. كان هناك شعور بالفرح، لكن أيضاً شعور بالخوف من أن لا تكون الزيارة كما يأمل الجميع. كان الكثيرون يتساءلون: "هل ستؤدي هذه الزيارة إلى تحسين أوضاعنا؟ هل ستُخفف من المعاناة التي نعيشها في ظل البرد والأمطار؟"
القلق كان يسيطر على الأذهان، ففي جراسا، كانت هناك قضايا كثيرة تحتاج إلى اهتمام: الفقر، قلة الموارد، وضعف الزراعة بسبب المناخ القاسي. كان الجميع يأمل في أن ينقل الإمبراطور مشاعرهم وآمالهم إلى روما، وأن تكون زيارته بمثابة جسر بين الحكام والمحكومين.
عندما بدأت الأصوات تعلو في الأفق، حيث سمعنا صدى الخيول والأقدام تقترب، انتابني شعور من الترقب. هل هو هو؟ هل جاء هادريان بالفعل؟ وبدأت قلوب الجميع تخفق بشدة. تجمع الناس في الساحة، ومع كل خطوة يقترب فيها الإمبراطور، كان الشغف يتزايد. وعندما ظهرت هيئته، اختلطت مشاعر الفخر والدهشة.
تجلى هادريان في زيه الامبراطوري، وابتسامته التي عكست تواضعه ورغبته في التواصل. تقدم بخطوات واثقة نحو الجماهير، وكان يلوح بيده، مما جعل الهتافات تتعالى. في تلك اللحظة، شعرت أن الآمال التي انتظرتها المدينة طويلاً قد بدأت تتحقق.
بدأ هادريان خطابه بكلمات ملؤها الإيجابية. تحدث عن أهمية السلام والاستقرار، وضرورة العمل معاً لتحسين الأحوال. كانت كلماته تحمل رسالة تطمئن الجميع بأنهم ليسوا وحدهم، وأنه هنا للاستماع إليهم. وصف جراسا بجمالها وأهميتها في إطار الإمبراطورية، مما أضفى طابعاً من الاعتزاز على قلوب الحضور.
أوضح أن زيارته ليست مجرد مرور عابر، بل هي بداية لعلاقة جديدة بين الإمبراطور والشعب. تعهد بتقديم الدعم للمزارعين والتجار، ومساعدتهم في مواجهة تحديات الشتاء القاسي. وعندما أنهى كلماته، أطلقت الجماهير هتافات تعبر عن فرحتها، وكانت مشاعر التفاؤل تملأ الأجواء.
مع مغيب الشمس، أُقيمت الاحتفالات في جميع أنحاء المدينة. كانت جراسا تتزين بألوان الفرح، وبدت كأنها ولدت من جديد. وتحت الأضواء المتلألئة، عادت الحياة لتنبض في الشوارع، حيث كانت الابتسامات تعلو الوجوه، والأمل يتجدد.
وفي ذلك الشتاء البارد، لم يكن البرد هو ما يُذكر، بل كانت تلك الزيارة التاريخية التي أعادت للأذهان معنى الوحدة والأمل. ومع بزوغ الفجر، كانت جراسا تتطلع إلى مستقبل جديد، بفضل الإمبراطور هادريان الذي ترك بصمته في قلوب شعبها.