مفتاح كلمتين عنوانها “ع هدير البوسطة” يفهمها كثيرون ومعها محركات البحث على انها اغنية ارزة لبنان فيروز. اما في حوار الاجيال وحديث ما يمكن تسفيره، يمكن القول بانها قد تشير الى أكثر اللحظات المحورية في تاريخ لبنان الحديث؛ اللحظة التي يقال عنها إنها كانت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية. في 13 أبريل 1975 شهدت بيروت حادثة عين الرمانة، حيث أُطلق النار على حافلة (بوسطة) مما أدى إلى مقتل عدد منهم. هذه الحادثة التي اتت بعد تعرض الشيخ بيار الجميل زعيم حزب الكتائب إلى إطلاق نار عند خروجه من كنيسة في ضاحية عين الرمانة لم تكن مجرد حادثة عابرة؛ بل كانت الشرارة التي أشعلت فتيل حرب أهلية استمرت حتى عام 1990 وتركت ندوبها على جسد لبنان لعقود.
لبنان، بموارده الطبيعية وثرواته البشرية، كان دائماً ما يتمتع بمكانة خاصة. فبيروت، التي كانت تُعرف بـ “باريس الشرق” في الستينيات من القرن الماضي، لطالما جسدت روحًا ثقافية وحضارية تميزت عن جاراتها. ومع ذلك، تعمقت الانقسامات الطائفية بمرور الوقت، وأصبح لبنان ساحة لصراع القوى الإقليمية والدولية، حيث تنافست كل من سوريا وإسرائيل وإيران وغيرها على التأثير في مجريات الأمور.
خلال الحرب الأهلية، وجد لبنان نفسه في خضم صراعات معقدة تجاوزت الحدود. كانت إسرائيل تطمح إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي المقابل، دعمت إيران حزب الله الذي تأسس عام 1982 بعد نجاح الثورة الايرانية ليكون في البداية قوة مقاومة، لكنه أصبح فيما بعد لاعباً أساسياً في الساحة السياسية والعسكرية. هذه التدخلات الخارجية عمقت من جراح لبنان وزادت من حدة التوترات الطائفية.
بعد الحرب، جاء اتفاق الطائف عام ١٩٨٩ في محاولة لترسيخ السلم الأهلي، ولكن الأمل الذي حمله هذا الاتفاق لم يدم طويلاً. أعاد الطائف توزيع السلطة بين الطوائف، لكنه لم ينهِ حالة الانقسام، بل أدى إلى استدامتها على أسس قانونية، ليبقى لبنان أسير طائفية النظام.
على الرغم من نهاية الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000، إلا أن سلاح حزب الله ظل قضية خلافية كبيرة، وأدى إلى زيادة تعقيد المشهد السياسي في لبنان. وبحلول عام 2006، اندلعت حرب جديدة بين حزب الله وإسرائيل، دامت 33 يومًا وتركت لبنان في حالة من الدمار الشامل، مما زاد من تعقيد مسألة السلاح ودور الحزب كقوة عسكرية خارج سيطرة الدولة.
مع التصاعد الأخير في التوترات الإقليمية، اشتعلت جبهة الجنوب اللبناني مرة أخرى في أكتوبر 2023، بعدما نفذ حزب الله هجمات على مواقع إسرائيلية على طول الحدود. هذه المرة، واجه لبنان دمارًا أشد وأعمق، حيث قُتل عدد من قادة حزب الله، بما فيهم السيد حسن نصر الله. هذا الحدث زاد من تعقيد المشهد وخلق حالة من التوتر والقلق من اندلاع حرب شاملة جديدة، في حين أن المجتمع الدولي يبدو عاجزًا عن إيجاد حلول فعالة، لا سيما مع تواجد قوات اليونيفيل التي باتت محط انتقادات متزايدة من البعض بسبب محدودية تأثيرها، الا ان وجودها يبقى مهماً حيث ان اسرائيل لا ترغب بذلك لانها تمارس دوراً رقابي على اختراقاتها المتوالية للقانون والمعاهدات الدولية.
في ظل هذه الاوضاع، يستمر الشعب اللبناني في صموده رغم الصعوبات، مستنداً إلى تاريخه العريق وموارده السياحية واقتصاده الواعد، الذي لطالما مكّن لبنان من النهوض مجددًا. اليوم، تزداد الحاجة إلى التقاء النخب السياسية اللبنانية على طاولة حوار وطنية تجمعهم بجدية وعزم؛ إذ إنها خطوة ضرورية لإنقاذ البلاد وصون حقوق الشعب اللبناني وإعادة بناء مستقبل مشرق خالٍ من الأزمات ويعيد للبنان سيادته، الأمر الذي اقترحه السيد سعد الحريري في بيانه حول اغتيال نصرالله والذي فاجأ به الكثيرين بدعوته للوحدة والتضامن للوصول بلبنان الى بر الامان. وهو ذات الامر الذي خطى البطريرك بشارة الراعي خطوة باتجاهه في دعوته لقمة بكركي الروحية اليوم والتي انتهت ببيان يحث اللبنانيين على الوحدة الوطنية وتجاوز جميع النزاعات والجدل العقيم، ويدعو مجلس النواب للتحرك فوراً بانتخاب رئيس يحظى بثقة الجميع. كما دعا البيان للشروع فوراً بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 1701 كاملاً.
برأيي الشخصي تهدئة اقليمنا تبدأ من احتواء صراعات لبنان. اللبنانيون اليوم يعيشون في ظل ذكريات الماضي الأليم، ويواجهون تحديات الحاضر الذي يبدو أكثر تعقيدًا. فهل نرى موقفاً واضحاً وقوياً يعيد المجد لوطنه ويمَكِّن للبنان من أن يخرج من هذه الدوامة ويحقق استقرارًا دائمًا كما نتمنى ويتمنى كل من يحب لبنان واهله الكرام، أم أن الصراعات ستظل جزءًا من مستقبله كما كانت من تاريخه؟