عندما نعيش مراحل حياتنا المختلفة.. غالباً ما نجد أنفسنا في حالة تأمُل بين ما تعلمناه في الكتب.. وما نواجهه من حقائق على أرض الواقع.. فعندما يتخرج الواحد منا من الجامعة.. ويدخل إلى سوق العمل.. يجد أن ما درسه لا يترجم كما توقع.. فخططه المثالية قد لا تصلح للتطبيق كما هي.. والأساليب التي تعلمها لا تكون دائماً الحل الأمثل.. فيكتشف أن الواقع محكوم بتفاصيل ومتغيرات.. لا يدركها إلا من يخوض غماره.. تماماُ كما حدث مع موظف كان قد تخرج من أعرق الجامعات.. ليكتشف عند دخوله إلى معترك الحياة العملية.. أن الكتب لم تعلمه كيفية التعامل مع تأخير الموردين.. أو غضب العملاء.. فكانت التجربة هي المعلم الأكبر..

وهذا التباين بين النظرية والتطبيق.. يظهر بشكل أوضح في ميادين أكبر.. خذ مثلاً المعارك والحروب.. ففي الاستوديوهات والتحليلات العسكرية.. تبدو كل الأمور واضحة.. المحللون يرسمون الخطط المثالية.. ويلقون اللوم على الجنود والقادة.. لأنهم لم يتخذوا القرار المناسب.. ولكن الحقيقة على أرض الواقع معقدة جداً..
فقد حدث في معركة واترلو الشهيرة.. والتي وقعت عام 1815.. حيث واجه الجنرال آرثر ويلينغتون جيش نابليون بونابرت.. وبرغم كل التحليلات والخطط المسبقة.. تغيّر مجرى المعركة بسرعة.. إذ تدهورت الظروف بشكل غير متوقع.. وكان على ويلينغتون اتخاذ قرارات ميدانية فورية.. حيث اعتمد على تكتيكات دفاعية مكثفة.. وواجه ضغوطاُ شديدة من قوات نابليون.. لكن الانقلاب في مسار المعركة جاء.. عندما وصلت قوات الجيش البروسي بقيادة بلوخر.. لتغير موازين القوة تماماً.. فبفضل مرونة ويلينغتون.. وتكيفه مع متغيرات الميدان.. إضافة إلى الانضباط الذي أظهرته قواته.. استطاع تحقيق انتصار حاسم.. أدى إلى سقوط نابليون..

ولا يتوقف هذا التباين عند الجوانب المهنية أو العسكرية.. بل يمتد إلى أدق تفاصيل حياتنا الشخصية والاجتماعية.. قبل الزواج.. تجد الكثيرين ينتقدون من سبقهم في اختيار شريكة الحياة.. يتحدثون عن ضرورة التوافق المثالي.. ولكن عندما يخوضون التجربة بأنفسهم.. يدركون أن التوافق ليس مجرد توافق أفكار.. بل هو بناء يومي يتطلب التفاهم والتنازل.. وهو أمر لا تُظهره النظريات المثالية.. بل تدركه التجارب الحياتية..

وهنا أقول.. لا يمكن للحياة أن تُدار بالنظريات وحدها.. ولا بالتجارب وحدها.. بل يكمن السر في الدمج بين الاثنين.. التنظير من بعيد سهل.. ولكن عندما تغوص في خضم التجربة.. تدرك أن الحقيقة أكثر تعقيداً.. التواضع هنا هو المفتاح.. فالحكمة الحقيقية.. هي في القدرة على التكيف مع المتغيرات.. والتعلم من التجربة.. دون التخلي عن المبادئ الأساسية.. وعلينا ان نكون متيقنين.. بأن الحياة لا تعترف بالتنظير فقط.. بل تطالب بالعمل والشجاعة في مواجهة الحقائق..