السياسيون و الشباب و العقل الباطن1
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
16-10-2024 07:42 PM
افترض أن كل سياسي مسؤول يحرص على احتواء و توجيه قطاع الشباب ليكون قوة دافعة للتنمية و الانتماء الوطني. الدولة الاردنية و برعاية ملكية تبذل الكثير من برامج و انفاق لهذا القطاع لكن برأيي أن النتائج ليست بمستوى الرؤية الملكية و ذلك برأيي ليس قصوراً من الحكومة و لكن قد يكون مرده عدم الفهم التام لآلية عمل عقل الشباب و خصوصا العقل الباطن. قد يستغرب البعض هذا الطرح و لكنني في هذه المقالة سأوضح الية عمل العقل في الشباب و اختلافه عن الاجيال الاكبر من منطلق التشابكات العصبية و التوازن الكيميائي لمواد مثل الدوبامين و السيروتونين و انعكاسها على رضى الشباب و انخراطهم في البرامج و أهدف من ذلك ان يكون هنالك لقاء و ليس تنافس أو صراع أجيال لنصل لمرحلة تكييف البرامج الشبابية لتحقق ما يريده و ليس ما نعتقد أن يريده الشباب أي و اسمحوا لي بتعبير أن تكون البرامج و الافكار وفق حاجة الزبون (customer oriented ). سأبدا بمثال نراه كثير، أب و ابنه في سيارة الابن يقود و الاب راكب، الشاب مع كل تجاوز او تغيير سرعة سيتلقى سيل من الانتقادات و التلويم من الاب و بالمقابل فإن الاب مع كل حركة جراءة و مغامرة و لو بسيطة ستزيد دقات قلبه و تتشنج عضلاته. الشاب يرتفع عنده الدوبامين و الاب يرتفع عنده الادرينالين و الكورتيزون و كل ذلك في عقليهما الباطن اي أن ذلك المشوار كان متعة للشاب لانه حفز مركز الجوائز في الدماغ (reward center) و قلق للاب لانه حفز مركز التهديد في الدماغ (fight and flight system). اذا اسقطنا هذا المثال على البرامج الشبابية و آليات احتواء الشباب نجد ان منظور المسؤول يختلف عن منظور الشاب.
ذكرت في مقال سابق أن العقل البشري ينقسم للعقل الواعي المسؤول فقط عن اقل من 5 بالمئة من حياتنا اليومية و من العقل الباطن المتحكم باكثر من 95 بالمئة من حياتنا بما فيها الذكريات و العواطف و الانضباط الانفعالي و المتعة و السعادة و الحزن و التذمر و التوتر و الكرم و البخل و الشجاعة و الجبن. كما ذكرت انه العقل الباطن ينقسم الى العقل الغرائزي الذي يشبه عقل التمساح من حيث غياب الحب و الكره و التعامل مع الآخرين من خلال مصلحة آنية (طعام) أو تهديد و كذلك العقل العاطفي المسؤول عن الحياة الاجتماعية و الامومة و الصداقه و الحب و الكره و الغيرة و الحسد و الشغف.
في مرحلة الشباب يرتفع مستوى الدوبامين متوازيا مع عدم كفاية السيروتونين لتنظيم عمله فيعطي الشاب الجراءه و الشجاعة و الجلد الميل للمغامرة و تجربة الافعال الخطرة و في حال عدم توفر ذلك قد يميل للحصول عليها من محفزات الدوبامين الارخص مثل الادمان و العنف و التطرف و مواقع التواصل الاجتماعي و المشاركة في الفعاليات الجمعية مثل المظاهرات و الثورات و مظاهر التعصب باشكالها سواءا العرقية او الدينية او العشائرية. لذلك نجد جيل الشباب الذي ينمو في بيئة تمنح منافذ لتفريغ الطاقات اكثر قبولا للآخرين من الاعراق و الديانات الاخرى في حين نجد بالمقابل ان نفس جيل الشباب في المناطق المهمشة اجتماعيا او ثقافيا او اقتصاديا اكثر تطرفا و عدوانية و قد تكون المنافسات الرياضية هي المنفذ الاكثر فعالية و صحية لحصول الشاب على المغامرة و تدفقات الدوبامين و ذلك يفسر شعبية كرة القدم مثلا. أذكر مثال بسيط فقد تكفلت و رعيت احدى بطولات كرة القدم للمراهقين في بلدتي لياتيني بعد احدى المباريات سيل مكالمات من الشباب لاختلافهم على احتساب هدف ادى لتأهل فريق على حساب آخر. بالنسبة لي الموضوع ليس له أهمية فهي بطولة في قريتي و لكن بالنسبة للشباب كان و كأنه مسألة كفر او ايمان مما اضطرني بالنهاية للتدخل و حل الاشكال.
هذا المثال يوضح ما يفعله تدفق الدوبامين عند الشباب في حين كون السيروتونين مكتمل في عمري و متحكم في عمل الدوبامين لم أجد أهمية للموضوع و كذا قد يكون حال الكثير من المسؤولين فهم في عمر اكتملت فيه حلقة التحكم بين الفص الجبهي الامامي في الدماغ بالتالي يجد بعض المواضيع من منظوره تافهة و لكنها من منظور الشباب تساوي تحقيق الذات و ترتقي لاهمية أكون أو لا أكون.
طبعا تدفق الدوبامين له فوائد أخرى كالنشاط و الرغبة بالتزاوج و عدم التدقيق في التفاصيل و الانتباه و الدافعية و هو أساس الشغف. و هذا يقودنا للصفات الاخرى للشباب في مجال العمل فهذه التركيبة الكيميائية في الدماغ تجعل الشاب يميل للمكافأة و يفضل المكافأة المالية على غيرها كما يرغب في التقدم في العمل و لكن في غياب الرغبة في الالتزام فالدوبامين يجعله أكثر انتباها و لكن اقل تركيزا لذلك في اختيار الاعمال للشباب لا بد من التركيز على مرونة اوقات و ساعات الدوام.
للتوضيح أكثر فإن دفقات الدوبامين في الدماغ هي التي تجعلنا نرغب بفعل او أكل او ممارسة شئ فمثلا لان السكريات و الطعام الجاهز تزيد إفراز الدوبامين تجد اننا رغبها و يزيد ذلك في الاطفال و كذا لان التفكير بالجنس الاخر يزيد افراز الدوبامين في دماغنا فاننا نرغب بذلك و نتحدث عنه و لان السلطة و المنصب يزيد تدفق الدوبامين نجد الرغبة بها. كل ذلك ينطبق على الشباب و لكن بقوة أعلى و اضافة ان المغامرة و الشهرة و المكافآت المالية و التدخين و الكحول و الادوية المخدرة و الانترنت و التحديات و الرياضة و العنف و التطرف تزيد افراز الدوبامين في العقل الباطن للشباب خصوصا في سن المراهقة فإنهم يميلون اليها فإن لم بحصلوا على تلك الدفقات الدوبامينيه من المصادر الصحية جنحوا للمصادر الضارة و الرخيصة لان الدماغ يريد الدوبامين و لكن لم تكتمل بعد التشابكات العصبية التي تختار بناء على تبعات مصادره سواءا نافعة او ضارة على المدى البعيد و هنا تأتي مسؤولية الاهل و المؤسسات الحكومية و غير الحكومية لتوفير المصادر المفيدة لتجنب انحراف الشباب الى المصادر الاخرى.
أضيف هنا أنه لا يجوز برأيي معاقبة الشاب على أخطائه العادية بنفس القوة التي يعاقب به الانضج لان التغول في العقاب سيدفعه للبحث عن الدوبامين من مصادر خفية رخيصة ضارة بمعنى ان العقاب في الشباب هدفه الاصلاح و التوجيه الى أن تنضج منطقة السيطرة العقلية الموجودة في الفص الامامي من الدماغ (PFC).
الخص أن عقل الشباب يعتمد على الدوبامين و الذي لم تكتمل حلقة تنظيمه بالسيروتونين في القشرة الدماغية و بالتالي يميل الشباب للحصول على الدوبامين من المصادر الصحية و غير الصحية و يعطيهم بالمقابل ارتفاع الدوبامين القوة و الشجاعة و الميل للتحدي و العنف و الانخراط في النشاطات الخطرة.
سأستكمل في هذا الموضوع في عدة مقالات قادمة لقناعتي أن قطاع الشباب لم يأخذ حقه من الدراسة العميقة و بالتالي توجيه طاقاته لتعزيز الانتماء و الروح الوطنية و اعطاءه الاحساس بالاهتمام و القبول و الاحتواء.