ذكريات وحكايات من مدرسة التاج الابتدائية ..
مصطفى القرنة
16-10-2024 11:55 AM
تتلاشى الأيام كسراب، لكن تبقى الذكريات حية كالنور في عتمة الذاكرة. بين جدران مدرسة التاج الابتدائية، حيث كان المعلمون بمثابة نماذج تحتذى في الوفاء والاخلاق، هناك تشكلت أحلامنا ومبادئنا. كان معلمونا قدوتنا، ولكل واحد منهم قصته التي تترك أثراً في نفوسنا. كانت الأسماء تجسيداً للأخوة والعطاء، وكنّا ننظر إليهم بعين التقدير والاحترام، ونرى فيهم تجسيداً للقيم والمثل العليا.
"كاد المعلم أن يكون رسولاً" ليست مجرد عبارة، هي تجربة عاشها كل طالب في المدرسة. كان معلمونا يمثلون لنا كل شيء؛ الأخ والصديق والمربي. أستاذي مصطفى، الذي علمنا بصدق وإخلاص، كان يحمل في قلبه شغفاً لا ينضب لنقل المعرفة. كلما جلست في الصف أراقب عينيه، كنت أرى شغفه بالعلم، وعندما يتحدث، كنت أسمع صوته كأنه يخرج من أعماق روحه. لم يكن يعبأ بما حوله، كان همه أن نفهم ونتعلم.
في الصف الأول، كنت أستمتع بالدروس، وأحسست بفرح كبير عندما كنت أحضر الحلوى التي كان أحد المعلمين يقدمها لنا. كانت تلك اللحظات كفيلة بتقريبنا من المدرسة، حيث استمتعنا مع زملائنا وضحكنا حتى نصل إلى مرحلة لا نستطيع فيها السيطرة على أنفسنا. في الصف الثاني، كان الضحك من أجمل التجارب، حيث أكلت ما فيه النصيب بسبب الضحك، ورغم ذلك كنت أشعر بسعادة لا توصف.
أما في الصف الثالث، فقد كان درس المهني أكثر ما يثير اهتمامي. وكان لدينا معلم يملك القدرة على جعل كل درس مثيراً، وكان يروي لنا حكايات ملهمة. في الصف الرابع، كانت دروس جدول الضرب هي الأكثر تحدياً، ولكل طالب حكاية مرتبطة بتلك الأرقام التي كنا نحاول حفظها. وفي الصف الخامس، كان المعلمون مميزين أيضاً، يختلفون في أساليبهم ولكن يجتمعون في شغفهم بتعليمنا.
مع مرور السنوات، تطورت تجربتنا التعليمية. في الصف السادس، بدأت أعي جيدا ما يدور حولي. القراءة كانت جزءاً لا يتجزأ من يومياتي، وبدأت أكتب الشعر. حتى أن زميلي أخبرني أن والدته سمعت صوتي من الإذاعة المدرسية. كانت تلك اللحظة بمثابة انطلاقة جديدة في حياتي، حيث شعرت بأنني أستطيع التعبير عن نفسي وأن هناك من يقدر موهبتي.
الحياة في جبل التاج
خارج أسوار المدرسة، كان جبل التاج يروي حكاياته الخاصة. بائع الكعك كان جزءاً من صباحاتنا، وسائق الباص كان محترفاً يعرف كيف يسوق بحذر واحترافية. كنا نعرف بعضنا كأننا عائلة واحدة، فإذا سألني أحدهم، كنت أجيب على الفور، "هذا سكان شارع الشهيد" أو "قرب مدرسة فاطمة بنت أسد". الأسماء كانت تتداخل مع الذكريات، وكنا نشعر بالانتماء إلى هذا المكان.
عند النظر إلى تلك الأيام، أجد أن التعليم كان أكثر من مجرد مادة دراسية. كان درساً في الحياة، تجارب تكوّنت من ضحكاتنا ودموعنا، من أخطائنا ونجاحاتنا. كانت مدرسة التاج الابتدائية بمثابة وطن صغير، حيث بنينا فيها أسس شخصياتنا. كانت ذكرياتها تمثل جوهر ما نحن عليه اليوم، وكأن تلك السنوات كانت تنسج لنا خيوط الحياة التي نعيشها.
ذكريات مدرسة التاج الابتدائية ستبقى محفورة في ذاكرتي، والمعلمون الذين كانوا ملائكة في صورة بشر، لن أنساهم أبداً. أستاذي مصطفى الذي علمني في الصف الاول ، وكل من علمنا، كانوا هم من رسموا لنا طريق الحياة، وجعلوا من العلم ضوءاً يضيء لنا الدرب. إنني أدرك اليوم أن تلك اللحظات، بتفاصيلها الصغيرة، هي التي شكلتني وجعلتني ما أنا عليه الآن.