اقتصاديات السياسة الصحية الناجعة
أد. إيمانويل مونيسار و أد. خالد الوزني
15-10-2024 03:04 PM
يقوم مفهوم تحقيق المساواة الصحية على ضمان حصول جميع الأفراد في المجتمعات على فرص عادلة للتمتُّع برعاية صحية مكتملة المتطلبات من بيئة نظيفة، ومرافق صحية، ومراكز للعلاج، ودواء، وكوادر طبية وغيرها، وهو ما يشكِّل تحدياً كبيراً على المستوى العالمي، ذلك أنَّ هناك تفاوتاً جوهرياً في مستويات الأوضاع الصحية بين الدول، ما يمثِّل تحدياً كبيراً أمام الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة في جميع المناطق والبلدان والمجتمعات. بيد أنَّ المتطلب الرئيس للوصول إلى نوعٍ ما من المساواة الصحية يتطلَّب معالجة المحددات الصحية الاجتماعية القائمة أساساً على الظروف والمعطيات التي يُولد ويعمل ويشيخ فيها المجتمع. فكلما تحسَّنت تلك الظروف ارتفعت نسبة المساواة الصحية بين الناس. ولعلَّ ما يشهده العالم من تطوُّرات علمية في المجال الصحي، وما تركه ذلك من آثارٍ مهمة في معالجة كثيرٍ من الأوبئة والأمراض التي تواجه العديد منذ سن الطفولة، مؤشرٌ مهمٌّ في تحسُّن مستويات المساواة الصحية في العديد من المجتمعات. ولعلَّ اختفاء العديد من الأمراض والأوبئة في معظم المجتمعات، مثل الطاعون والجدري وشلل الأطفال والسل، مؤشر مهم على تحسُّن مستويات المساواة الصحية على المستوى العالمي.
ومن هنا، تلعب السياسات العامة للحكومات حول العالم دوراً محورياً مهماً في تخفيف مستويات التفاوت غير العادلة للوصول إلى الرعاية الصحية، والمرتبطة بالوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو ما يتعلَّق في بعض المجتمعات بالعرق والجنس أو الموقع الجغرافي.
وتشير الدراسات إلى أنَّ صُنّاع القرار في الشأن الصحي، من الشرق الأوسط إلى أوروبا، يعملون على تطوير استراتيجيات لتعزيز أنظمة صحية وظروف مجتمعية أكثر إنصافاً تُفضي إلى أكبر قدر من المساواة الصحية.
بيد أنَّ ذلك كله تحكمه مؤثّرات ومحدّدات اجتماعية ترتكز أساساً على مستوى الاستقرار الاقتصادي، وإمكانات الوصول إلى التعليم، ومستوى البيئات الحاضنة، وهي في مجموعها تؤثِّر بشكل كبير في السلوكيات الصحية للناس، ما قد يُعرِّضهم للمخاطر، ويحُدُّ من وصولهم إلى الرعاية الصحية العادلة. وفي هذا السياق، يواجه ذوو الدخل المنخفض والتعليم الأقل مخاطر أعلى للإصابة بالأمراض المزمنة، وقِصر العمر المتوقَّع.
وتعاني الأقليات العرقية والإثنية في عدد من المجتمعات من عبء صحي وسجل مرضي مرتفع، في ظل الوصول إلى مستويات رعاية متدنية نسبياً، بسبب التمييز المنهجي والحرمان الاجتماعي والاقتصادي.
وتشتمل أولويات السياسة الصحية الرئيسة على المساواة في الوصول إلى التعليم الجيد، والسكن بأسعار معقولة، والأمن الغذائي، والبيئات النظيفة.
إنَّ القدرة على تحمُّل تكاليف الرعاية الصحية، من خلال توسيع مظلة التغطية التأمينية والحماية المالية، أمر بالغ الأهمية في كافة المجتمعات. وفي هذا المجال، فإنَّ المجتمعات المتقدمة والنامية على حدٍّ سواء مطالَبة بالاستثمار في البنية التحتية للرعاية الصحية الأولية، على مستوى المجتمع بشكل عام، والقوى العاملة بشكل خاص، وذلك لضرورة تحسين مستويات الوصول إلى الخدمات الوقائية، وتحقيق متطلبات التنمية المستدامة.
وقد أشارت أهداف التنمية المُستدامة السبعة عشر الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أهمية السياسات التي تُعنى بالمساواة الصحية بشكل مباشر وغير مباشر، حيث جاء الهدف الثالث ليتحدث عن الصحة الجيدة والرفاه، وجاء الهدف السادس ليتناول المياه النظيفة والنظافة الصحية، ثمَّ أشار الهدف العاشر والحادي عشر إلى الحدِّ من أوجه عدم المساواة، وضرورة وجود مدن ومجتمعات مستدامة. وختاماً، فإنَّ العمل للوصول إلى أكبر قدر من المساواة والعدالة في الرعاية الصحية يتطلَّب تبنّي سياسات واستراتيجيات ترتكز على بيانات وأبحاث علمية رصينة، وتشاركية تامة بين القطاعين العام والخاص، وتشاركية مجتمعية، وتقييماً ومتابعة دائمَين. ذلك أنَّ الوصول إلى أكبر قدر من العدالة والمساواة في الرعاية الصحية هو ضرورة اجتماعية تقوم على تحقيق العدالة بين الناس، وضرورة اقتصادية تقوم على حُسن استثمار القوى البشرية وصولاً إلى أفضل إنتاجية ممكنة.
وفي النهاية، فإنَّ الاستثمار في تحقيق الرعاية الصحية العادلة هو استثمار في المستقبل، وتحقيق لمجتمعات ذات إنتاجية أكبر وسعادة ورفاهية أفضل.
* البروفيسور إيمانويل آزاد مونيسار أستاذ سياسة وأنظمة الصحة
* البروفيسور خالد واصف الوزني أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية