بسبب ما تركه طوفان الأقصى من ارتباك وهذيان في إسرائيل والمنطقة بدأ تعبير منع انزلاق المنطقة إلى الحرب الشاملة يطفو على السطح، وأصبح من أهم المفردات السياسية في العام الماضي، لكن ما الذي يعنيه وما هي دوافع استعماله على هذا المستوى الواسع، فهل هو خوف حقيقي من توسع دائرة الحرب أم أنه وسيلة لمنع انزلاق الولايات المتحدة وجر رجلها لحرب غير مخططة؟ أم هي تقنين للمواجهات العسكرية في حدود الإمكانات الإسرائيلية مما يجنبها مواجهات في غير إمكانياتها وطاقتها العسكرية؟ أم أنها رسالة للأطراف أن الولايات المتحدة لن تسمح بالاستفراد بإسرائيل.
مع انطلاق العدوان على غزة، بدأت الأصوات الأميركية والغربية والإقليمية تتعالى بأن فرصة الدخول في حرب إقليمية واسعة بات أمراً شبه واقع، توجهت أنظار الجميع إلى جنوب لبنان وسورية والعراق وإيران فقد كان من المتوقع أن الصواريخ ستنهال بدون حساب على دولة الاحتلال، وبموازاة ذلك كان الحضور الواسع للبوارج الأميركية في المنطقة لمنع احتمالات الفناء لإسرائيل كما تدعي، لكن كل ذلك لم يحدث فالصواريخ القادمة من الشمال ومن كل الاتجاهات ضبطت مواقيتها على شروط محكمة لا تصل إلى الحد الذي يؤذي إسرائيل ولا يثير غضبها وغضب حليفتها الولايات المتحدة.
وهكذا على مدى عام تمكنت إسرائيل والولايات من ضبط ردود أفعال جميع خصومها عند الحد الذي مكّنها من إنجاز أهدافها في غزة، لكن اللعبة لم تنته عند هذا الحد إذ سرعان ما استدارت الآلة العسكرية الإسرائيلية إلى الشمال لتسوية حساب سكتت عنه عاماً كامل ولكنها أعدت له منذ 18 عاماً، حساب قديم حان وقت تصفيته فهل تُضيع إسرائيل اللحظة؟ لا يبدو ذلك لقد بدأت على الفور بحرب تقنية أظهرت لعدوها اللدود أنها تخترقه حتى النخاع، وفي الأثناء تم توجيه رسالة قوية لحليفته وداعمته الكبرى إيران بأن يد اسرائيل قادرة، فكان اغتيال القادة في السفارة في دمشق في رسالة من العيار الثقيل ألزمت إيران بالرد، وهنا ظهر تعبير الحرب الشاملة من جديد والذي فهمته إيران بأن تدخلاً قوياً منها سيكون مدعاة لرد أميركي صاخب، مما جعل ردها فاترا، ومثل ذلك الرد حدث بعد اغتيال كل من السيد إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله عليهما رحمة الله، فتحت شعار الحرب الشاملة تمكنت إسرائيل من الاستفراد بحزب الله وتدمير إمكاناته العسكرية والبشرية بكل هدوء وبدون تدخل محوره الذي بات فاقداً للتوازن، وفي ظل صمت مطبق من حليفة الحزب الكبرى، والتي بدأت الدوائر تدور عليها فبعد أن تخلصت إسرائيل من ثقل احتمال ضربة صاعقة بالصواريخ من حلفاء إيران بدأت آلتها العسكرية تستعد للتوجه نحو العقل المدبر والرأس، مثلما قال نفتالي بينت (بعد تقطيع أذرع الأخطبوط علينا ضرب الرأس).
حددت الولايات المتحدة مخاطر عديدة من مواجهة كبرى ووضعت بناء عليها قواعد لا يجب تجاوزها وهي تحاول إقناع إيران بأنها ستضغط على إسرائيل لمنعها من تجاوزها، أولها منع إسرائيل من ضرب المفاعلات النووية الإيرانية وهنا أيضاً خشية اندلاع مواجهة شاملة، والمحدد الثاني هو منع ضرب مصافي وآبار النفط كي لا تقوم إيران بضرب منصات النفط في الخليج العربي وقد وجّهت إيران تحذيرات بذلك، كل هذا خشية ارتفاع أسعار النفط العالمية بالذات إذا ما لجأت إيران إلى إغلاق مضيق هرمز، كل ذلك جاء تحت ذريعة أنه سيضر مصلحة المرشحة هاريس ويفيد المرشح دونالد ترامب والذي يعلن العداء منذ الآن لإيران ويتهمها بمحاولة قتله، وهنا تنجح الولايات المتحدة في خلق بعبع جديد تقنع فيه إيران بأنها في خطر وجودي كامل وبالتالي تتيح فرصة الاستفراد بها كما حدث مع حلفائها، وهو ما يعطي الفسحة لإسرائيل لتوجيه الضربات لها بدون رد كبير منها، وهنا نحن أمام احتمالين إما أن الإدارة الأميركية ترسم لصفقة كبرى مع إيران في حال فوز كمالا هاريس أو أنها تجهز لتغييرات كبرى في إيران تبدأ بضربات محدودة تتوسع تدريجاً.
كل ذلك يعطي الانطباع بأن الحديث عن الحرب الشاملة لا يعدو عن كونه وسيلة استخدمت للاستفراد بحلفاء المحور الواحد والذي ظهر أنه أقل ذكاء مما قال عن نفسه، فالنتائج على الأرض تثبت حجم الإخفاق وتواضع خطط هذا المحور، كل ذلك ربما يؤكد أن هذا المصطلح استخدم كوسيلة لإعطاء الفرصة لإسرائيل للاستفراد بخصومها، وغاية لمنع انزلاق الولايات المتحدة في حرب لا تريدها، ومع ذلك يصر كثيرون أن فرصة الحرب الشاملة ما زالت قائمة لأنهم على قناعة أن لدى إيران ما تقوله في اللحظات الحاسمة وأن الكثير من الصواريخ المخبأة لدى حلفائها مخصصة للإنطلاق فقط عندما تتعرض إيران للخطر ويمكن لها أن تكون سبباً لتوسع الصراع والدخول في هذه الحرب الشاملة.
الغد