بكين: حكايات مدينة تتغير باستمرار
مصطفى القرنة
14-10-2024 01:02 PM
كنت مع أحد الصحفيين عندما ضعنا في المدينة القديمة لبكين. ثمة تغيرات كبيرة تجري هنا، فبكين، تلك المدينة التي كنت أظنها ثابتة في ماضيها، بدأت تتخلص من جلدها القديم. محلات المساج التي كانت تمتد على طول الأزقة الضيقة، ورائحة الفقر التي تعلو زقاقها الضيق، كل ذلك تلاشى تحت أنقاض الحداثة. لقد تحولت المحال الصغيرة البائسة إلى واجهات فخمة، وناطحات السحاب التي نمت بشكل مفاجئ كأنها ترفع يدها للسماء، تعبر عن طموحات المدينة المتجددة.
كلما زرت بكين، كنت أكتشف أن المدينة تتغير في كل مرة. تحدثت إلى صديقي الصحفي، وسألته إلى أين تأخذنا الآن؟ كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة، فأجابني بابتسامة مشاكسة: "سنضيع في بكين". كانت هذه هي لعبته المفضلة، يهوى الضياع في المدن الكبرى، حيث يجد في كل زاوية قصة جديدة تنتظره.
انطلقنا في شوارع المدينة المزدحمة، والناس يمرون من حولنا كالأشباح، أسراب من العابرين الذين يحملون في عيونهم قصصًا وحكايات. سرنا حتى تعبنا، ولم نكن نتكلم الصينية، مما زاد من شعورنا بالانفصال عن هذا العالم الغريب. لولا كرت الفندق الذي كنا نحمله في جيبنا، لما استطعنا العودة إلى مكاننا.
في تلك الأثناء، كانت بكين تعيش ليلاً ساحرًا. الضجيج الذي يتصاعد من الأسواق والمطاعم يختلط برائحة الطعام الشهي، ويدعو كل من يقترب لاكتشاف المزيد. سائق الدراجة، الذي كان يتجول بين الحشود، كان بمثابة دليل غير رسمي لنا، نراقبه كيف يتنقل بخفة بين المارة. كانت ليالي بكين تحكي قصص ألف ليلة وليلة، حيث تمتزج الخيال بالواقع.
أثناء تجولنا، كنا نحاول الوصول إلى روح بكين، بكل ما فيها من صخب وجمال. لم يكن الأمر سهلاً، ولكن كل زاوية كنا نتوقف عندها كانت تحمل بصمة تاريخ عريق وثقافة غنية. كل ناطحة سحاب كانت قصة نجاح، وكل زقاق ضيق كان يحمل آثار الماضي.
توقفنا عند أحد المقاهي الصغيرة في حي قديم، حيث رائحة الشاي الصيني تنتشر في الأجواء. كانت هناك مجموعة من المحليين يجلسون معًا، يتبادلون الأحاديث ويضحكون. شعرت بمدى التواصل الذي يجمعهم، وكيف أن هذه المدينة رغم تغييرها لا تزال تحتفظ ببعض من روحها الأصلية.
كان حديثنا يدور حول التغيرات التي شهدتها بكين، وكيف أنها أصبحت عاصمة عالمية. صديقي الصحفي، الذي عاش في هذه المدينة لسنوات، كان لديه الكثير ليقوله. "نحن نشهد تحولات جذرية، لكن المدينة لا تفقد هويتها"، قال لي. "الأمر أشبه بمتاهة، كلما اكتشفت شيئًا جديدًا، تجد أن هناك المزيد في انتظارك."
مع مرور الوقت، بدأت أشعر بأن بكين هي أكثر من مجرد مدينة. إنها كائن حي يتنفس ويتغير باستمرار. الغروب الذي كان يتسلل بين ناطحات السحاب، أضفى على المكان سحرًا خاصًا. شعرت كأنني جزء من تلك الحكاية، مثل ألف ليلة وليلة، كل لحظة تحمل في طياتها سحرًا وفائدة.
غادرنا المدينة في نهاية تلك الليلة، لكن الذكريات التي حملناها معنا كانت أجمل من أي صورة أو وصف. بكين، بتغيراتها المتواصلة، صارت صديقتي بكل ما في الكلمة من معنى. لقد شهدت معالمها الحكايات، وعشت فيها لحظات جميلة.
في كل زيارة، أعود إلى تلك المدينة، لأكتشف فيها شيئًا جديدًا. بكين لم تعد مجرد مدينة، بل أصبحت تجسيدًا للأمل والطموح، لصراع الإنسان مع الزمن، وللأحلام التي لا تتوقف عن النمو. ما بين الازدحام والفقر، يظل هناك دائمًا مجال للجمال، وللتجدد.
تعلمنا بكين كيف نرى الجمال في كل زاوية، وكيف نحتفي بالتغيير. وتترك فينا أثراً عميقًا ، فقدأصبحنا نرى في كل مدينة نزورها ما يمكن أن يكون سحرها الخاص، تمامًا كما وجدنا في بكين.