حرب متعددة الجبهات .. كيف أعادت إسرائيل رسم خريطة الصراع؟
د. عامر السبايلة
14-10-2024 03:04 PM
مع مرور عام على أحداث السابع من أكتوبر، ودخول المنطقة في دوامة العنف المستمر، فإن إعادة قراءة السابع من أكتوبر وتبعاته تمثل محاولة لفهم الذهنية الأمنية الإسرائيلية التي بدأت الحرب في غزة، ثم نقلتها تدريجياً إلى جبهات متعددة. بدأ التحشيد الإسرائيلي لحرب غزة على أساسين: الأول ربط حركة حماس بتنظيم داعش واستحضار نموذج التحالف الدولي لمكافحة داعش، والثاني ربط ما حدث بالمحرقة اليهودية وتقديمه كخطر وجودي.
الحرب التي بدأت في غزة سرعان ما تجاوزت الحدود الجغرافية لهذا الصراع. سعت إسرائيل منذ اليوم الأول إلى التعامل مع ملف غزة باعتباره جزءًا أساسيًا من استراتيجية «وحدة الساحات»، وهي استراتيجية تتجاوز المواجهة التقليدية مع حركة حماس. بُنيت الاستراتيجية الإسرائيلية على مبدأ «تفكيك الساحات»، وهو ما جعل إسرائيل تتبنى نهج العزل والاستفراد والتفكيك الداخلي، من خلال إعادة رسم الجغرافيا والتأسيس لتفريغ غزة ديموغرافيًا، وهو ما يمكن اعتباره خطة طويلة الأمد تتجاوز فكرة احتواء التهديد الأمني أو خطر تكرار هجمات مشابهة لهجمات السابع من أكتوبر.
التدرج في استراتيجية تطبيق مبدأ التفكيك والاستفراد في الساحات انطلق من غزة، ولكن في الوقت ذاته كانت الأنظار الإسرائيلية مفتوحة على الجبهات السبع، مع تركيز أكبر على جبهة الضفة الغربية. ففي الوقت الذي كان التركيز منصبًا على غزة، كان التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية يزداد بشكل كبير، مؤسسًا لخطوات كانت تُعتبر من المحظورات في المرحلة السابقة، مثل ضم الأراضي، إخلاء السكان أو تخريب الممتلكات، وصولًا إلى عمليات الاستهداف المستمرة للمخيمات والخلايا المسلحة.
الجبهات السبع
بعد هجوم السابع من أكتوبر مباشرة، بدأت إسرائيل بطرح خطر الجبهات السبع، مشيرة إلى أن ما حدث لا يمثل خطرًا يقتصر على جبهة غزة وحدها، بل هو تجسيد للنظرية التي روج لها نتنياهو لسنوات، وهي أن إسرائيل اليوم محاطة بطوق تهديد إيراني يمتد من غزة إلى الضفة، ومن لبنان والجولان إلى العراق واليمن، وصولًا إلى إيران.
في محاولة لدعم غزة، فتح حزب الله جبهة «إشغال» من جنوب لبنان ضد إسرائيل، في محاولة محدودة لتطبيق مبدأ «وحدة الساحات»، ولكنها اقتصرت على جبهة واحدة ذات إيقاع مضبوط. هذا جعل إسرائيل تتعامل مع التهديدات عبر خطوات عملية مدعومة أمريكيًا. لم تستطع الجبهة اللبنانية نقل أزمة أمنية إلى الداخل الإسرائيلي، كما لم تستطع فك الارتباط بين جبهتي غزة ولبنان. وهكذا، قد يكون حزب الله قد بدأ هذه الحرب من جبهة لبنان، لكنه لم يعد قادرًا على إغلاقها في لحظة معينة.
جبهة الإشغال، التي لم تتحول إلى جبهة حرب شاملة، جعلت إسرائيل تتقدم تدريجيًا باتجاه الاستفراد في الجبهة اللبنانية. فخلال الشهور التي تلت السابع من أكتوبر، واصلت إسرائيل استهداف عناصر حزب الله عبر ضربات جوية أو باستخدام المسيرات أو حتى من خلال عمليات اغتيال. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن التعامل مع جبهة لبنان دون الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى مواجهة الجبهة الحقيقية التي تدعم لبنان، وهي سوريا، التي تعرضت في السنتين الأخيرتين لضربات نوعية وغير مسبوقة، أظهرت أن إسرائيل باتت موجودة في تفاصيل المشهد السوري والتحركات الإيرانية على الأرض السورية. فقد استهدفت العمليات الإسرائيلية مخازن السلاح، طرق الإمداد اللوجستي، والشخصيات الأمنية المنخرطة في المواجهة مع إسرائيل. هذه العمليات تعد تمهيدًا للاستفراد بحزب الله في الداخل اللبناني.
أما جبهة اليمن، التي فتحها الحوثيون في محاولة أخرى لتطبيق مبدأ «وحدة الساحات» من خلال استهداف السفن في البحر الأحمر وربط وقف هذه العمليات بإنهاء الحرب في غزة، فقد تحولت بسرعة إلى مسؤولية دولية. تم حشد تحالفين دوليين: الأول هو «تحالف الازدهار» بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، والثاني هو «تحالف أسبيديس» الأوروبي. وقد أصبح التعامل مع هذه الجبهة من منظور عملي مسؤولية دولية، وفي الوقت نفسه، وفر هذا الوضع لإسرائيل غطاءً لتوسيع عملياتها ضمن استراتيجية مواجهة التهديدات القادمة من هذه الجبهات، مما جعلها تصل بضرباتها إلى اليمن بصورة مباشرة.
تأمين الجغرافيا الأمنية
غطت إسرائيل معظم تحركاتها بعد السابع من أكتوبر بغطاء يستند إلى فكرة ضرورة تأمين الجغرافيا المحيطة لمنع تكرار هجمات مشابهة. وأصرت إسرائيل على أنها لا تواجه دولًا بل تنظيمات غير حكومية تستهدف أمنها، وميليشيات تسعى إلى نقل حالة عدم الاستقرار إلى الداخل الإسرائيلي. هذا المبرر قدم لها تصريحًا شاملاً للتحرك ضمن محيطها الجغرافي. هذه التحركات الإسرائيلية بدت وكأنها تحركات منهجية تهدف إلى أخذ المنطقة بأكملها تدريجيًا نحو مواجهة شاملة، ولكن وفقًا لمحطات منفصلة وجغرافية منعزلة، أي عبر التعامل مع كل جبهة على حدة، وإيصالها إلى مرحلة الاحتواء الأمني، ثم الانتقال إلى جبهة أخرى. لكن في الجوهر، ظل التركيز الإسرائيلي منصبًا على تجريد الحركات القوية مثل حماس والجهاد الإسلامي، ولاحقًا حزب الله، من أي قدرة على نقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي، وتطبيق نظرية الإشغال الأمني لكافة الجبهات، وهو ما تعتبره إسرائيل مقتلًا أمنيًا. في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، هي التي تذهب إلى الحرب ولا تنتظر أن تأتيها الحرب، وهو ما حاولت حماس وحزب الله تنفيذه عبر تسويق نموذج الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية من الشمال والجنوب ونقل الأزمة الأمنية إلى الداخل، مع احتمال فتح جبهة الجولان.
احتواء الخطر القادم من غزة شكل بالنسبة للإسرائيليين فرصة لنقل الثقل العسكري إلى الجبهة الجنوبية مع لبنان. ومع تكثيف العمليات في الضفة الغربية وسوريا، سعت إسرائيل إلى ضمان احتواء الأخطار التي قد تعطل عملية الاستفراد بلبنان. وقد أشارت التحركات العسكرية الإسرائيلية إلى خطة استخباراتية كبيرة مبنية على عامل المفاجأة والسرعة في التعامل مع حزب الله. بدءًا من عمليات استهداف وحدة «الرضوان» والمسؤولين عن الصواريخ والمسيرات، وصولًا إلى استهداف القيادة السياسية، وعلى رأسها الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، فإن إسرائيل تسعى إلى عدم إتاحة الفرصة للحزب لتدارك ما يجري.
تشبه خطة الاستفراد بحزب الله في جوهرها خطة إسرائيل لاستهداف حماس في غزة. من حيث العزل وضرب البنية التحتية وتقطيع الأوصال الجغرافية وقطع الإمدادات اللوجستية، إلى تعميق الأزمة الإنسانية. استهداف الضاحية وتفريغها من سكانها، وعزل الضاحية عن بيروت، والجنوب عن بيروت، وكذلك عزل لبنان عن العالم عبر فرض وصاية على الحدود البرية والبحرية والجوية، كلها خطوات تشير إلى أن المشروع الإسرائيلي تجاوز القرار 1701 ويمضي باتجاه تفكيك حزب الله وتجريده من سلاحه وتحويله إلى عبء داخلي على لبنان. ويشير هذا إلى أن التدرج الإسرائيلي في التعامل مع الجبهات بدأ يقود إلى مفهوم جديد يتجاوز تأمين إسرائيل إلى ما يمكن تسميته بـ «حرب الوجود» التي تحولت إلى «حرب نفوذ».
المواجهة مع إيران
منذ سنوات، أصر نتنياهو على أن المواجهة مع إيران، وتحديدًا مع الحرس الثوري الإيراني، مسألة حتمية. في السابق، كان هذا السيناريو يبدو كأنه انتحار، لكن أحداث العام الماضي منحت فكرة المواجهة المباشرة بعض المنطق. تفكيك الساحات وإضعافها واحتواء قدرتها على نقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي جعل المواجهة المباشرة مع الحرس الثوري أكثر منطقية. ومع ذلك، يبدو أن المرحلة المقبلة قد تشهد خطوات أكثر عملية لاستهداف الحرس الثوري الإيراني في الداخل، ما يعني فعليًا تنفيذ عملية قطع الطريق بين طهران وبيروت، مرورًا بجغرافيا العراق وسوريا.
في الختام
عام كامل من الصراع على مختلف الجبهات، بدأ في غزة وانتهى بفتح كل الجبهات، يعني أن الحلول السياسية باتت أكثر تعقيدًا، وأن واقع الصراع الحالي مرشح للتفاقم. الحلول المستقبلية قد تأتي من نمط جديد، خاصة إذا خضعت معظم هذه الجبهات لأزمات داخلية، من لبنان إلى سوريا والعراق، وحتى إيران.
الرأي