السياسيون وبرمجة العقل الباطن "1"
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
14-10-2024 09:19 AM
افترض في هذه المقالة ان هدف السياسي و المسؤول هو الحفاظ على السلم المجتمعي و الانتماء و في نفس الوقت تطوير المؤسسات و بناء مستقبل افضل. قد يعتقد البعض ان المهمتين متماثلتين ولكن من منطلق علمي فإن الاولى تقوم على مخاطبة العقل الباطن و الذي يسيطر على الشعوب و الجموع في حين تقوم الثانية على منح أفراد مساحة للابداع و الابتكار و التحديث و هذه تقوم على العقل الواعي. نفس الفرد الاعلى تعليما مثلا و الذي يمثل خامة للتطوير و الابداع من خلال عقله الواعي قد يغيب الوعي لصالح العقل الباطن بشقية العاطفي و الغريزي و ينصهر مع حراك جماهيري يعطيه الحماية و الانتماء و قد يكون جزءا من عصبية او عاطفية عرقية او مناطقية او عشائرية او دينية او قومية.
سأشرح اولا كيف ينقسم و يعمل العقل البشري لتسهيل فهم الموضوع و علاقته باحتواء و توجيه المجتمع و الجماهير و علاقته ايضا في توجيه الافراد للتطوير و الابداع و التحديث ضمن اي مجتمع او مؤسسة أو دولة.
ينقسم العقل البشري الى ثلاثة ادمغة الاول العقل الغرائزي (عقل السلاحف) و الثاني العقل العاطفي و الثالث و الذي يميز البشر عن باقي الكائنات و و هو العقل الواعي (يعتبر العقل العاطفي في البشر اكثر تطورا من باقي الكائنات و لكن يتشابه في السلوك هو العقل الغرائزي مع الكائنات الاخرى لدرجة عالية) و يعمل العقل ضمن انواعه الثلاثة من خلال تشابكات عصبية و توازن كيميائي في مواد أهمها الادرينالين و الكورتيزون و الدوبامين و السيروتونين و الاكسيتوسين و الاندورفين. لتسهيل الموضوع سأبدأ بمثالين:
1. الخاطب و المتزوج: يرتفع الدوبامين في دماغ الخاطب كونها تجربة جديدة يأمل منها الكثير و ذلك يعطي الدافعية و القوة فتجد الخاطب قد يقطع عشرات الكيلومترات ليحقق رغبة بسيطة للمخطوبة و يشعر بالطاقة و الانتباه و التحفز و المتعة في حين بعد الزواج يبدأ الدوبامين بالانحدار نتيجة للألفة و عوامل أخرى فتجد نفس الفرد قد يجد تثاقل في تحقيق رغبة لزوجته لاحضار شئ من المطبخ الى الغرفة و يشعر و كأنه يقطع بحور و فيافي. ذلك نتيجة لتناقص إفراز الدوبامين بعد الزواج و كل ذلك حدث في العقل الباطن و قد يحتاج الزوجين لايجاد هدف مشترك مثل مصلحة الابناء لادامة العلاقة.
2. في بداية كل تعيين يجد الفرد او المسؤول أنه يمتلك طاقة عالية و اهداف كبرى و رغبة قوية بالتطوير و العمل و ذلك نتيجة افراز دفعات عالية من الدوبامين و لكن ذلك يبدأ بالتراجع نتيجة نقص افراز الدوبامين و اذا طالت الفترة فقد يجد ميل للملل و التثاقل ما لم يجد الالية التي تناسبه لاعادة افراز الدوبامين.
كلا المثالين يوضحان قوة العقل الباطن في صياغة حياتنا اليومية دون فرق بين الاكاديمي المتعلم المثقف المسؤول و بين الفرد العادي. لذلك فإن العقل الباطن مسؤول عن أكثر من 95 بالمئة من حياتنا اليومية دون تمييز في المستوى التعليمي او الوظيفي في حين ان العقل الواعي مسؤول فقط عن 1-4 بالمئة من حياتنا اليومية و فرق هذه النسبة بين الواحد و الاربعة بالمئة هي ما تميز المثقف الواعي من الفرد العادي. بالنسبة للعقل الغرائزي و الذي قد يختطف (عمليا) باقي العقل فهو قائم على المصلحة الانية (الطعام و الغرائز) و على التهديد و ما يتبعه من قتال و فوضى او هرب و انسحاب الى مكان آمن و المثال على ذلك في الكائنات مثلا التمساح فهو لا يحب او يكره و لكن يمثل له الانسان اما طعاما (مصلحة آنية) او تهديدا و على ذلك يهاجم او يهرب. أما مثال ذلك على الفرد البشري فان الجموع تنطلق بهذا الاتجاه و حتى على مستوى الافراد فالكثير منا يرى في الآخر اما مصلحة او تهديد و لذلك فإن المسؤول مثلا في موقعه مصلحة آنية متوقعة و قد تتزاحم عليه الاتصالات و الافراد و ما أن يترك منصبه حتى ينفض عنه الجميع و في ذلك لا تختلف القاعدة وفقا للاعراق او المناطق فهذه تركيبة بشرية ورثناها عبر الاجيال و هي مرتبطة بمناطق جذر الدماغ و اجزاء من لوزتي الدماغ (amygdala) و هذه تمثل حراك الجموع في حالة تهديد مصالحها او توقعها مصلحة مع غياب التهديد نتيجة الحماية التي توفرها الجموع لذاتها و التي تكون جاذبة لانضمام جموع اخرى قد تختلف معها في التعليم و التطلعات و لكن العقل الغرائزي يصهر المجموع في خليط متجانس يغيب فيه العقل الواعي لان الجموع تعطي شعورا بالانتماء و الحماية و غياب العواقب على الفرد.
أما العقل العاطفي و الذي يمثل الوصل بين الغرائزي و الواعي فهو مخزن هائل مظلم للاعتقادات و العواطف و التوجهات و التجارب و الذاكرة و بالتالي فهو الحاكم لحياتنا اليومية وفق البرمجة التي وضعت فيه في السنوات السبع الاولى و التي قد يتم تعديلها قليلا مع التعليم و الثقافة و التجارب و لكنها تبقى الاساس في الانضباط العاطفي و الميل الى السلبية و الايجابية. ساعطي مثالا لنرى القوة الهائلة للعقل الباطن و الذي يعمل بسرعة عالية جدا و بقدرة هائلة بدون تفكير وفق البرمجة التي وضعت له. عندما نبدأ بتعلم قيادة السيارة فإن العقل الواعي هو المسؤول و هذا العقل يحتاج انتباه و تركيز و هو بطئ مستهلك عالي للطاقة (موجود في القشرة الدماغية خصوصا الفص الامامي من الدماغ) و مع تكرار التدرب و ممارسة قيادة المركبة يتم برمجة العقل الباطن لذلك تجد بعد فترة أن الفرد يقود المركبة الى مسافات بعيدة و خلال ذلك يفكر في اشياء كثيرة و قد يذهب به العقل الى ذكريات مضت او مستقبل آت او يفكر في احداث و افراد و مع ذلك يصل الى هدفه. من الذي كان يقود المركبة، لقد كان العقل الباطن و مع ذلك لم يقطع اشارة او يتجاوز سرعة او يدهس احد و حتى لو حاول الفرد تذكر الطريق و تفاصيلها قد لا يقدر لان العقل الواعي كان مغيبا و العقل الباطن من كان يقوم بالمهمة. لذلك فإن العقل الباطن العاطفي قوة هائلة مسؤولة عن السعادة و المتعة و الرضا و كذلك مسؤولة عن التذمر و النقد و الشعور بالخذلان و الرغبة و الدافعية و الاعتدال و التطرف و رفض الاخر و قبوله و تفاصيل لا مجال لذكرها في هذا المقال و لكن يكفي ان نرى ان المتطرف عرقيا او دينيا او عشائريا او سياسيا او إجراميا قد يتنقل و يتقلب بين اي من هذه حتى لو ظهرت متناقضة فالاصل ان العقل الباطن برمج على التطرف و لكنه يبحث دايما عن غطاء او وعاء مقبول ضمن الجموع التي تعطيه القبول و الحماية و القيمة الذاتية. لذلك قد يتفاجأ البعض ان وجد ارهابيا يدافع عن قضية او دين او عرق انتقل من تاريخ اجرامي فاصل برمجة العقل الباطن واحدة و هي التطرف و الاحادية و لكن اختلف الوعاء الحاضن.
لا اريد الاسهاب اكثر في هذا الموضوع حيث أنه موجود بالتفصيل في كتابي برمجة العقل الباطن ولكن ألخص أن العقل الواعي المسؤول عن المنطق و الابداع و التخطيط هو عقل بطئ يحتاج للتركيز و الانتباه و مجهد كونه يستهلك كمية طاقة عالية (وزن الدماغ 2 بالمئة من وزن الجسم و لكن يستهلك 20 بالمئة من طاقته حيث يتم ضخ خمس دم الجسم للدماغ) و أما العقل الباطن فهو نمطي سريع فعال و يعتمد في عملة على رد الفعل و العاطفة و برمجته القديمة و لكن استهلاكه للطاقة ضئيل جدا مقارنه بالعقل الواعي. لذلك فإن الإنسان بطبيعته يميل للابتعاد عن التفكير و التخطيط و التطوير و التحديث كجزء من تأقلم العقل مع حفظ الطاقة و نجد ذلك جلياً في تفكير المجتمع الجمعي و سلوك الجماهير التي تندفع مع الافكار السطحية السهله خصوصا المرتبطة بمصلحة آنية او عاطفة معينة مثل التعصب للعرق او الدين او القومية او العشائرية او المناطقية لذلك نجد الجموع تتحيز لفكرة او فرد بآلية عمياء بعيدة عن الوعي و إن نفرت كرهت ايظا بذات الطريقة.
أما التطوير و التحديث فيعتمد على التفكير و الادراك و الابداع باسترجاع ذكريات المعرفة و البناء عليها للتخطيط و الوصول للأهداف المستقبلية و بالتالي فإن ذلك يعتمد على أفراد لنجاحهم يحتاجون الاستمرارية و الانضباط مع وجود الدافع و الرغبة و ابتعادهم عن التيارات الجماهيرية و الشعبوية.
و هنا برأيي جوهر عمل السياسي المسؤول أن يعمل بالوصفتين معا تلك الموجهة للجماهير لضبط ايقاعها بدغدغة عواطفها و قمع متطرفها و ابقاء الامل موجودا كمصلحة آنية لاحتوائها و الاخرى الموجهة لاختيار الافراد الذين يحملون العلم و الفكر و الثقافة و الرؤى الواضحة و سعة الادراك و المؤمنين بالحوار و قبول الآخر ليحملوا مهمة التطوير و التحديث و بناء المستقبل.
في مقالة قادمة ساكتب عن اليات بناء هوية ثقافية تخفف من احتقان المجتمعات و توجه طاقاتها للسلم المجتمعي بدلا من التصادم.