استشراف الملك الحسين للمستقبل ورؤيته الثاقبة .. هدية السلام لشعبه
م. وائل سامي السماعين
10-10-2024 01:31 PM
منذ توليه العرش، تميز الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، بحنكة سياسية وبصيرة استراتيجية مكّنته من قيادة الأردن خلال فترة مليئة بالتحديات الإقليمية والدولية. لم يكن تحقيق السلام والاستقرار لشعبه مجرد شعار يرفعه، بل نهجاً عملياً وهدفاً استراتيجياً سعى لتحقيقه طوال فترة حكمه. لقد أدرك الملك الحسين طيب الله ثراه أن حماية الأردن ومصالحه الوطنية تتطلب نظرة بعيدة المدى وقدرة على التوازن بين الاعتبارات الداخلية والضغوطات الخارجية، الأمر الذي تجلّى بوضوح في توقيع معاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية عام 1994، المعروفة باسم معاهدة وادي عربة.
لقد جاءت معاهدة وادي عربة في وقت شهدت فيه المنطقة توتراً مستمراً وصراعات متكررة، ما دفع العديد من الأطراف إلى معارضة هذه الخطوة بدافع منطلقات أيديولوجية أو قومية،او حزبية ضيقة الافق، معتبرين أن السلام مع إسرائيل ليس الطريق الصحيح للحفاظ على المصالح الوطنية. إلا أن الملك الحسين كان يرى أبعد من ذلك، فقد أدرك أن الظروف الإقليمية المتغيرة تتطلب إيجاد حلول غير تقليدية لحماية أمن الأردن واستقراره، بما في ذلك اللجوء إلى خيار السلام.
رؤية الملك الحسين واستشرافه للمستقبل أثبتت مع مرور الزمن أن معارضي اتفاقية وادي عربة لم يكونوا على حق. فبينما انزلقت دول أخرى في المنطقة إلى صراعات لا تنتهي، وتمزقت مجتمعاتها بفعل الحروب والأزمات، نجح الأردن في الحفاظ على استقراره ووحدته. لم يكن السلام الذي حققه الملك الحسين مجرد اتفاق سياسي، بل كان استراتيجية بعيدة المدى لتأمين مستقبل الأردن وضمان بقائه واحة للأمن والاستقرار في منطقة مضطربة.
إن معاهدة وادي عربة لم تحقق فقط الاستقرار على الحدود الأردنية، بل عززت من مكانة الأردن على الساحة الدولية كدولة معتدلة تدعو إلى الحوار وتحقيق السلام. وبهذه الخطوة، ضمن الملك الحسين مصالح بلاده ونجح في تحييدها عن الكثير من التحديات الإقليمية التي أثقلت كاهل دول أخرى في المنطقة.
لقد تجنّب الأردن بفضل هذه الاتفاقية تبعات الحروب والمواجهات المسلحة التي أدت إلى تدمير العديد من الدول، واستطاع أن يبني علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، مما مكّنه من الحفاظ على أمنه الداخلي واستقراره الاقتصادي. ومع مرور الوقت، أدرك الكثيرون ممن عارضوا الاتفاقية أن الملك الحسين كان ينظر إلى أبعد مما كانوا يتصورون، وأن خطواته لم تكن تكتيكاً سياسياً مؤقتاً، بل استثماراً طويل الأمد في مستقبل الأردن وشعبه، ولكن الغريب في الامر ما زال البعض يعارض اتفاقية وادي عربة للسلام ، ويحاول جر الاردن الى معارك وصراعات ليس طرفا فيها ، وكأنهم يتجاهلون حقيقة ان هذه الاتفاقية كانت وما زالت درعا حصينا يحمي الاردن من الدخول في نزاعات يخوضها الاخرون ويدفعون ثمنها دون نتائج تذكر ، متمثلة في الكوارث على شعوب المنطقة والابرياء المدنيين منهم.
وهكذا، تبقى رؤية الملك الحسين واستشرافه للمستقبل هدية السلام الحقيقية التي قدمها لشعبه، مستشعراً المخاطر المحدقة ببلاده ومقدراً لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. سلام الملك الحسين لم يكن سلاماً هشاً، بل كان اختياراً استراتيجياً ثبتت صلابته مع مرور السنوات، وترك إرثاً من القيادة الرشيدة التي يستذكرها الأردنيون بفخر واعتزاز، حيث أسس من خلالها نموذجاً فريداً في الدبلوماسية والسياسة الإقليمية، وضمانة لأمن الأجيال القادمة.
ويبقى السلام هو الخيار الاستراتيجي الامثل الذي ينبغي للاردن التمسك به والاستمرار في نهجه . فالسلام ليس مجرد غياب الحرب ، بل هو حالة من الاستقرار والازدهار والتعايش السلمي ، التي تتيح للاردنيين التطلع الى المستقبل بروح من الامل . لذلك ، فان مستقبل الاردن سيبقى مرتبطا بشكل وثيق بهذا الخيار الاستراتيجي ، وعلى شعوب المنطقة كافة بما فيها التي تنتهج خيار المقاومة المسلحة ، ان تدرك ان تحقيق السلام هو الطريق الامثل لبناء دول مستقرة ومزدهرة.
ومن هنا فان التحدي الاكبر يكمن في اقناع جميع الاطراف الاخرى في منطقة الشرق الاوسط ، بما فيها اليمين المتطرف في اسرائيل ، بأن السلام ليس ضعفا ، وانما هو خيار استراتيجي وليس تكتيكي، وهو قوة تعزز مناعة الدولة وتحافظ على مصالحها وتؤمن الاستقرار والازدهار لكافة شعوب المنطقة.