رواية جبل التاج: ذكريات وحكايات
مصطفى القرنة
10-10-2024 08:58 AM
عندما بدأت أكتب رواية "جبل التاج"، كانت تلك اللحظة بمثابة رحلة في الزمن. قررت أن أزور جبل التاج بعد غياب طويل، وأن أستعيد ذكرياتي في هذا المكان الذي يحمل بين طياته جزءاً كبيراً من حياتي. سرتُ في الشوارع التي تعودت عليها، متوجهاً نحو مدرستي، مدرسة التاج الابتدائية، حيث قضيتُ أجمل لحظات طفولتي.
عندما وصلت، استرجعتُ شريط ذكرياتي. كان المكان مفعماً بالذكريات، كأن الزمن توقف هنا. كان الجو مشبعاً بالحنين، وعندما دخلت المدرسة، شعرت وكأنني عدت إلى طفولتي. تلك الأيام التي قضيتها بين جدران هذه المدرسة كانت مليئة بالبراءة والاكتشافات. الطلاب من أبناء حارتنا كانوا بمثابة إخواني، وكنا نتشارك كل شيء، من اللعب إلى الدراسة، وكل تفاصيل الحياة اليومية.
بالرغم من عدم تمكني من استعادة كل تفاصيل علاقتنا بمعلمينا، إلا أن الارتباط بتلك الفترة ما زال حياً في ذاكرتي. كانت المدرسة ليست مكانا للتعلم فحسب بل كانت مجتمعاً صغيراً يضم مجموعة من الأصدقاء الذين كنا نلتقي في نادي الإنجليز القريب، والذي تحول فيما بعد إلى مدرسة التاج الثانوية. كان ذلك النادي نقطة التقاء لنا، حيث كنا نتبادل الأحاديث والأفكار.
جبل التاج هو أحد أقدم الأحياء في عمان، وكان له مكانة خاصة في قلبي. لم أنسَ كيف كانت الشوارع تتحدث عن حكاياتها، وكيف كانت تلك الأزقة تجسد ذكرياتنا. حاولت في روايتي أن أنقل هذا الإحساس، أن أروي الحكايات التي عايشتها ولكن بطريقة مختلفة، وأن أعيد الحياة إلى الأماكن التي شكلت شخصيتي.
تَغيرتْ الأسماء وتبدلت الوجوه، لكن جبل التاج يبقى كما هو، حاملاً عبق الماضي. عندما كنتُ أكتب، كنت أرى تلك الشوارع تتشكل أمام عيني، وكأنني أعيش كل لحظة من جديد. إنها تحمل قصص كل من عاش فيها، وكل زقاق فيها له حكايته الخاصة. وعندما أكتب عن تلك الشخصيات، أشعر أنني أعيد لهم الحياة، أحيي ذكرياتهم من خلال كلماتي.
كان جبل التاج بالنسبة لي أكثر من مجرد مكان؛ كان رمزاً للذاكرة، للماضي الذي لا يمكن نسيانه. حاولت أن أقدم في روايتي الجوانب المتعددة لجبل التاج، من تاريخه إلى قصص أهله، وتجربتي الشخصية في هذا المكان. أدركت أن الكتابة عن جبل التاج ليست مجرد مهمة أدبية، بل هي محاولة للتمسك بجذوري والاحتفاظ بذكرياتي.
إن جبل التاج يمثل تجسيداً للحنين، لمكان يمكن أن تكون فيه الذكريات أقدر من الزمن. فكلما استعدت تلك اللحظات، شعرت بأنني أعود إلى طفولتي، إلى البراءة، وإلى أحلام كانت تعيش في صدري. تلك الأحلام التي تلاشت مع مرور الزمن، لكنها لم تنطفئ تماماً، بل ظلت مشتعلة في داخلي، تنتظر الفرصة لتظهر من جديد.
من خلال صفحات روايتي، حاولت أن أكون الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر. عشت تجربة الكتابة كأنها رحلة، رحلة استكشاف في أعماق نفسي، وعبر الزمان. جبل التاج لم يكن فقط خلفية لروايتي، بل كان بطلاً رئيسياً في القصة، يدعو القارئ لاكتشاف ماضيه والتأمل في حاضره.
الحياة في جبل التاج كانت مليئة بالألوان. كان كل يوم يحمل في طياته شيئاً جديداً، من ضحكات الأطفال إلى أصوات معلمي المدرسة، إلى تلك اللحظات التي كنا نجتمع فيها للصلاة في مسجد الشهيد القريب. كانت تلك الأوقات تعزز الروابط بيننا، كعائلة واحدة، رغم كل التحديات التي واجهتنا.
إن حكايات جبل التاج هي حكايات الأمل، والحب، والصداقة. عندما كتبت عن شخصياتي في الرواية، حاولت أن أعكس تلك الروح. كل شخصية تحمل في طياتها جزءاً مني، من أحلامي، من مخاوفي، من آمالي. كنت أريد للقارئ أن يشعر بأنه جزء من هذا العالم، أن يكتشف جماليات جبل التاج بنفسه.
بينما كنت أكتب، كنت أشعر بحضور المكان. كأن الجبال والأشجار والشوارع تشاركني في رواية هذه القصة. لقد أصبحت الكتابة بالنسبة لي وسيلة للتواصل مع الماضي، مع كل ما يعنيني، ومع كل شيء كان يشكل هويتي.
عند الانتهاء من رواية "جبل التاج"، شعرت بإنجاز كبير. لم يكن فقط كتابة قصة، بل كان توثيقاً لحياة، لحكايات عاشها أناس لهم قصصهم وأحلامهم. كان الجبل شاهداً على كل ذلك، وكان لي شرف أن أكون السارد لهذه الحكايات.
اخيرا أود أن أقول إن جبل التاج هو أكثر من مجرد جبل؛ إنه رمز للذكريات، للحياة التي عشتها، والقصص التي أحملها معي. من خلال الكتابة، أردت أن أشارك هذا التراث مع الآخرين، وأن أذكر الجميع بأن لكل مكان حكايته، وأن لكل شخص قصة تستحق أن تروى. جبل التاج، بكل ما فيه من جمال وحنين، سيبقى دائماً في قلبي، وسيظل يشكل جزءاً لا يتجزأ من حياتي.