البنوك المركزية الرقمية .. أفق المستقبل
د. محمد فخري صويلح
08-10-2024 09:52 PM
تُعد البنوك المركزية مؤسسات تنظيمية رقابية مستقلة ، مهمتها الرئيسة الحفاظ على الاستقرار النقدي، وإدارة الاحتياطيات النقدية، والمساهمة في تحقيق أولويات النمو الاقتصادي في بلدانها.
إضافة إلى ذلك، تقوم البنوك المركزية بقبول الودائع من الحكومات والبنوك، وتقرض البنوك التجارية والمؤسسات المالية ضمن أطر حددها القانون.
ومن نافلة القول، أن البنوك المركزية تواكب التطور الجاري لكامل القطاع المالي، وبالتالي فهي لا تملك البقاء في مساحة العمل التقليدي دون اللحاق بركب التطور التقني، مما يدفع بها بالضرورة نحو رقمنة الأداء وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي حتى تتكامل في بنيتها التحتية مع كامل القطاع المالي ومؤسساته، بل مطلوب منها قيادة القطاع نحو حالة مالية ومصرفية رقمية معاصرة.
وتسعى العديد من الدول مثل الصين والسويد والولايات المتحدة والسعودية والإمارات إلى تطوير نماذج خاصة بها من البنوك المركزية الرقمية، فقد أطلقت الصين "اليوان الرقمي" كجزء من استراتيجيتها لتحديث النظام المالي، وتعزيز استخدام العملة المحلية في المعاملات الدولية.
ويقوم البنك المركزي الرقمي على إصدار عملة رقمية وإدارتها ، بحيث تكون نسخة رقمية من النقود التقليدية، مما يتيح للمستخدمين إجراء المعاملات بطريقة أكثر كفاءة وشفافية، مع توفير بديل محتمل للنقد الورقي والبطاقات الائتمانية، يضاف لذلك استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات المالية وتحليلها وتصنيفها وإصدار التقارير والتواصل مع المؤسسات المالية الخاضعة لرقابة البنك المركزي من خلالها، وكذلك مع المؤسسات ذات الصلة بالبنك المركزي المماثلة له في العالم.
ولقد أصبحت البنوك المركزية الرقمية المؤشر الأول لمستقبل الاقتصاد العالمي، ففي ظل التطور التكنولوجي المتسارع في مجال المال والأعمال، وظهور الحاجة للبنوك المركزية الرقمية (CBDCs) كخيار مهم للدول والمؤسسات المالية لتعزيز أنظمتها النقدية، أضحى التوجه نحو اعتماد العملات الرقمية من قبل البنوك المركزية الخطوة الجديدة في عالم المال، حيث تعيد هذه الأدوات تشكيل نظام المدفوعات العالمي، وتحسن الشمول المالي، وتعزز استقرار النظام المالي العالمي.
ومن الجدير ذكره أن البنوك المركزية الرقمية تتيح العديد من الخدمات التي قد تغير شكل التفاعل بين الأفراد والمؤسسات المالية والدول، ومنها:
أولاً: توفير نظام المدفوعات الفورية محلية كانت أو دولية بالاعتماد على تقنية السجلات الموزعة (Distributed Ledger Technology) التي تمكن من تسجيل المعاملات بسرعة وكفاءة عالية، وتتيح تحويل الأموال بشكل فوري، مما يعزز سهولة المعاملات وتسرّيع وتيرتها.
ثانياً: تعزيز الشمول المالي من خلال توفير خدمات مالية للأفراد والمناطق التي لا تصلها البنوك التقليدية بسهولة، وتمكن العملات الرقمية الحكومية الأشخاص غير المتعاملين مع البنوك من الانضمام إلى النظام المالي الرسمي عبر التطبيقات الرقمية التي تتطلب وسائل اتصال بسيطة.
ثالثاً: تمكين أدوات السياسة النقدية المتقدمة من استخدام أدوات نقدية جديدة وأكثر دقة للتحكم في التضخم وتنظيم العرض النقدي من خلال أدوات مثل البرمجة الذكية الممكنة للبنك المركزي من تعديل العرض النقدي بشكل مباشر، مما يمكنه من تنفيذ سياسات نقدية دقيقة واستهداف التضخم والنمو الاقتصادي بشكل أفضل.
رابعاُ: تعزيز مكافحة الجرائم المالية باستخدام العملة الرقمية، لتسهيل تعقب المعاملات وتعزيز قدرة الحكومات على مكافحة الجرائم المالية مثل غسل الأموال.
خامساً: خفض تكلفة المعاملات وتقليل الاعتماد على الوسطاء الماليين، مما يخفض تكاليف المعاملات للأفراد والشركات، وذلك على خلاف المعاملات التقليدية.
وتتميز البنوك المركزية الرقمية بجملة من المزايا لعل أهمها:
أولاً: المرونة والكفاءة من خلال الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة كتقنية "البلوكتشين" والسجلات الموزعة، مما يعزز من سرعة وكفاءة العمليات المالية، على عكس الأنظمة التقليدية المعتمدة على نظام مصرفي مركزي به العديد من القيود التشغيلية، وتوفر الأنظمة الرقمية مستويات أعلى من الكفاءة والمرونة في العمليات المالية.
ثانياً: التكامل مع الاقتصاد الرقمي من خلال التماشي مع الاتجاه العالمي المعزز للاقتصاد الرقمي، مما يزيد من إمكانية تنفيذ المعاملات بسرعة وكفاءة، ويعزز نمو التجارة الإلكترونية ويزيد فرص الاستفادة من الثورة الرقمية في مختلف القطاعات الاقتصادية.
ثالثاً: تحسين إدارة السيولة والسياسة النقدية من خلال متابعة وإدارة تدفق السيولة في الاقتصاد بشكل أكثر دقة وشفافية، مما يحسن من فعالية السياسة النقدية ويستهدف التضخم ويحقق الاستقرار المالي بشكل أكثر فعالية مقارنة بالنقد التقليدي.
رابعاً: مواجهة العملات الرقمية الخاصة والتي يتجاوز عددها 14 ألف عملة رقمية مصدرة، مثل البيتكوين والإيثيريوم والتي تشكل تحديًا للبنوك المركزية.
ومن خلال تقديم عملات رقمية حكومية، تستطيع الدول الحفاظ على سيطرتها على النظام المالي ومنع التهديدات التي قد تشكلها العملات المشفرة الخاصة على استقرار النظام المالي.
خامساً: تعزيز الأمان والثقة كونها أكثر أمانًا من العملات المشفرة غير المدعومة من قبل الحكومة. وتتمتع البنوك المركزية بقدرة أكبر على ضمان أمان العملات الرقمية وحمايتها من التلاعب أو الاختراقات مما يعزز الثقة في النظام المالي.
كما تساهم البنوك المركزية الرقمية في تعزيز استقرار النظام المالي واستقرار الأسواق المالية خلال الأزمات، إذ يمكنها توفير السيولة بشكل فوري وسريع.
رغم الفوائد المحتملة للبنوك المركزية الرقمية، إلا أن هناك تحديات ينبغي مواجهتها لضمان جعل هذه العملات واقعاً عملياً، ومنها ضرورة تحديث التشريعات والبنية التحتية المالية، وتوفير حماية فعالة ضد الهجمات السيبرانية، إضافة إلى وجوب تعامل الحكومات مع المخاوف المتعلقة بالخصوصية، ومن ناحية أخرى، تشكل البنوك المركزية الرقمية فرصة لتحديث النظام المالي العالمي بما يتماشى مع التغيرات التكنولوجية السريعة.
وقد توفر هذه العملات أدوات جديدة لتعزيز الشمول المالي، وتحسين إدارة المخاطر، وتسهيل التجارة العالمية.
وبالرغم من المزايا المشار إليها أعلاه،، إلا أن العمل المالي في عمومه لا يخلو من التحديات، ومنها تلك المرتبطة بالبنوك المركزية الرقمية، ومن أهمها:
أولاً: المحافظة على الأمان والخصوصية فيجب التعامل مع قضايا الأمن السيبراني وحماية بيانات المستخدمين، وإيجاد توازن بين الشفافية وحماية الخصوصية، مع ضرورة عدم انتهاك الخصوصية عند تتبع الحركات المالية، وكذلك الحاجة إلى منع الاحتيال.
ثانياً: هناك مخاوف أن تؤدي استخدامات البنك المركزي الرقمي إلى زيادة التقلبات الاقتصادية في الأسواق المالية، ما قد يؤثر على الاستقرار المالي العالمي.
ثالثاً: قد تؤدي العملات الرقمية إلى تجريد البنوك التجارية من بعض أدوارها التقليدية مما يؤدي للتأثير على النظام المصرفي التقليدي، ويتطلب إعادة تأهيل نموذج الأعمال المصرفية لدى البنوك التقليدية، إضافة إلى دفعها نحو الانتقال إلى المصرفية الرقمية.
رابعاً: تحتاج الحكومات إلى التوافق التنظيمي و وضع إطار قوي يتناسب مع التغيرات السريعة في التكنولوجيا المالية لتوفيرالحماية الكافية لها.
تمثل فكرة البنك المركزي الرقمي انطلاقة جديدة للنظام المالي العالمي، في ظل التقدم التكنولوجي والتحولات الاقتصادية المستمرة، وعلى الحكومات تبنى هذه التحولات دون إغفال توفير الأمان والخصوصية للمستخدمين، مع اليقين بمستقبل واضح أن البنوك المركزية الرقمية ستكون جزءًا أساسيًا من مشهد الاقتصاد العالمي في السنوات القادمة.