الشاي والشعر في بيت الشاي: رحلة إلى عمق الثقافة الصينية
مصطفى القرنة
07-10-2024 01:05 PM
على طاولة خشبية جلستُ مع أصدقائي في أحد بيوت الشاي التقليدية في بكين. كانت الأجواء دافئة ومريحة، والضوء الخافت يخلق هالة من السكون. بجانبي صديقي صالح الخوالدة الذي يعشق استكشاف الثقافات، بينما بدأت الفتيات بِصب الشاي بالطريقة الصينية المعهودة. تلك اللحظات كانت تُعيد لي ذكريات قديمة، حيث كانت تنبض الحياة بألوانها المختلفة في كل رشفة.
ثمة ثقافة خاصة بالشاي في الصين، الشاي هنا أكثر من مشروب، بل يمثل روحًا وحياة. هو حكاية ومتعة وجمال ، وطقس يُعبر عن التواصل والاحترام. كان اختيار الأنواع متنوعًا، فتعددت الخيارات بين شاي بنكهة التفاح، والبرتقال، والياسمين. كل نوع يحمل قصة خاصة به، تجسد طبيعة الأرض التي جاء منها، ومهارة الأشخاص الذين أعدوه.
وبينما كنت أستمتع برائحة الشاي العطرة، شعرت بأننا قد انتقلنا إلى زمن آخر. الأجواء كانت مثالية لأمسية شعرية، لذا قررت أن أقرأ بعض القصائد التي كتبتها في فترات مختلفة من حياتي. كنت قد أعددت مجموعة من القصائد تعكس مشاعري وتأملاتي، وها أنا ذا، وسط هذا المكان الجميل، أحلق بكلماتي مع الأصدقاء.
الليل كان بارداً، والمطر يهطل برقة على النوافذ، مما أضاف طابعًا شاعريًا على الأمسية. الفتيات، بكامل أناقتهن بالطقم الأسود، بَدَونَ كأنهن جزء من لوحة فنية، كل واحدة منهن تجسد الجمال والأناقة بأسلوبها الفريد. كانت عيونهن تلمع في ضوء الشموع، تتبع كل كلمة أقرأها بشغف واهتمام.
بدأت بقراءة قصيدتي الأولى، التي كانت تتحدث عن حب الطبيعة. كلماتي تنساب كالماء، تتناغم مع قطرات المطر، والشعر ينسج خيوطًا من الذكريات. عشت كل لحظة، وكأنني أغني للشجرة التي تعانق السماء، للزهور التي تتفتح في الربيع، وللنجوم التي تضيء في الظلام.
تفاعل الأصدقاء كان إيجابيًا، فقد شاركوني بأفكارهم وتعليقاتهم. صديقي صالح ، المعروف بأسلوبه النقدي، كان يبتسم برضا ويعبر عن إعجابه بعمق الصور الشعرية. بينما كانت الفتيات يصغين باهتمام، ويحركن رؤوسهن كعلامة على الفهم والتقدير.
تتابعت القصائد، وكل واحدة تحمل طابعًا مختلفًا. قرأت عن الحب والفقد، عن الأمل واليأس، وعن تلك اللحظات التي تجمع بين الضحك والبكاء. وعندما وصلت إلى قصيدة عن المدينة، شعرت كأنني أصف بكين بكل زخمها، بحيويتها، بزاواياها الهادئة التي يمكن أن نكتشفها إذا ما أمعنا النظر.
وفيما كانت الأمسية تسير، أخذنا نتبادل الحديث حول تأثير الشعر في حياتنا. صديقي الصحفي كان لديه الكثير من القصص ليشاركها، تجارب من رحلاته في أماكن بعيدة، وكيف أن الأدب والشعر يمكن أن يكونا جسرًا للتواصل بين الثقافات المختلفة.
ثم جاءت لحظة مميزة، حين قررت الفتيات أن يشاركن بأغانيهن أيضًا. كانت أصواتهن عذبة، تحمل شغفًا وحبًا . من خلال أغانيهن ، تمكنتُ من رؤية العالم من منظور مختلف. كانت الاغاني تتحدث عن الفرح والألم، عن الأمل والتحديات، كما قالت لنا المترجمة ، وكم كانت تلك اللحظات نابضة بالحياة.
مرت الساعات وكأنها دقائق، والشاي يُصب، والحوار يتجدد ، تتداخل الأصوات، وتنبض الأرواح. كانت اللحظات تتجمع معًا، لتشكل تجربة فريدة . تلك الأمسية بالنسبة لي حكاية جميلة، واحتفال بالصداقة والثقافة والفن.
وعندما حان الرحيل قررت أن أقرأ قصيدة أخيرة، قصيدة تعبر عن الشكر والامتنان لتلك اللحظات الجميلة. كان شعورا بالفخر لأنني كنت جزءًا من هذه التجربة، جزءًا من الحوار الثقافي الذي يربطنا. قرأت الكلمات، وكل كلمة كانت تمثل اعتزازي بالصداقة وبالثقافة التي تجمعنا.
مع تلاشي ضوء الشموع وتلاقي قطرات المطر، انتهت الأمسية. لكن الذكريات ظلت حية في قلبي. تلك اللحظات التي عشناها، الكلمات التي تبادلناها، والشاي الذي شاركناه، كلها كانت تُذكّرني بقيمة الفن والشعر في حياتنا.
رحلتنا في بيت الشاي لم تنته هنا، فقد بدأنا بمغامرات جديدة. عندما أذكر تلك الأمسية، أشعر بأن الشعر والشاي، رغم اختلافهما، يجمعاننا في لحظات من السحر والتواصل. فكما أن لكل نوع شاي قصة، لكل قصيدة قصة أيضًا، وقصصي ستبقى موجودة في ذاكرة الزمن.