بين عدسة التوثيق .. وصناعة الرعب الجماهيري
محمود الدباس - ابو الليث
04-10-2024 07:00 PM
منذ السابع من أكتوبر.. باتت الشاشات تعرض مشاهد العنف والدمار في غزة ولبنان على مدار الساعة.. سواء عبر البث المباشر.. أو التقارير الإخبارية.. أصبح المُشاهد معتاداً على رؤية جثث الشهداء والمباني المدمرة.. في الأيام الأولى.. كانت هذه الصور تثير العاطفة والتأثر الكبير.. لكنها بدأت تفقد قدرتها على تحريك المشاعر بمرور الوقت.. يبدو أن التعود على العنف.. أصبح أمراً لا مفر منه.. وهنا تكمن إشكالية نفسية عميقة ترتبط بما يعرف بـ "التعاطف المتناقص".. حيث أشار علماء النفس إلى أن الإنسان يميل إلى فقدان الشعور بالصدمة عندما يتعرض باستمرار لمشاهد المعاناة.. فهل هذا التعود يُساهم في تراجع الروح المعنوية؟!.. أم في زيادة الصمود؟!..
ظاهرة "التعود".. أو ما يسميه البعض "الإرهاق النفسي".. تؤدي إلى تبلد في الاستجابة العاطفية.. إذ يبدأ المُشاهد بالتعامل مع أرقام الشهداء.. كأنها مجرد إحصاءات يومية.. وحتى الجرائم الكبرى.. مثل قصف المدارس أو المستشفيات لا تُحرك المشاعر بنفس القوة كما كانت في البداية.. بعض الأبحاث تشير إلى أن مشاهدة العنف بشكل متكرر.. تقلل من القدرة على التعاطف.. فيبدو أن الإنسان يُطور آلية دفاعية نفسية تحميه من الانهيار.. هذه الآلية قد تكون سلبية عندما تؤدي إلى اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين..
على الجانب الآخر.. يجادل بعض الخبراء في الإعلام.. بأن توثيق الجرائم وبث حجم الدمار هو ضرورة سياسية وإنسانية.. ليس فقط لتوثيق الجرائم الإسرائيلية.. بل لكسب التأييد الدولي والتعاطف.. فالإعلام يلعب دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام.. ونقل الحقيقة إلى العالم.. وفق نظرية "التأطير الإعلامي".. والتي تبرز كيف تقوم وسائل الإعلام بتحديد كيفية تقديم الأحداث.. وتأطيرها بطريقة تؤثر على تفسير الجمهور لها.. فالصورة الإعلامية تتحول إلى أداة للضغط السياسي والدولي.. ولكن.. هل يمكن أن تنقل الصورة الحقيقة من دون تشويه؟!..
التعتيم الإعلامي الإسرائيلي على ما يحدث داخل الكيان الإسرائيلي.. يكشف جانبا آخر من استراتيجيات الإعلام الحربي.. الإعلام الإسرائيلي يحرص على عدم بث صور الدمار في الداخل.. للحفاظ على معنويات سكانه.. هذه السياسة تعتمد على فهم عميق للتأثير النفسي السلبي الذي قد يُحدثه بث صور الدمار على الروح المعنوية.. بينما الإعلام العربي والفلسطيني يعتمد على التأثير الصادم لنقل الواقع.. فيبدو أن كلا الجانبين يستخدم الإعلام كسلاح.. ولكن بطرق مختلفة تماماً..
بث الصور الدموية والعنيفة قد يُساهم في نشر الرعب.. ليس فقط بين سكان المناطق المتضررة.. بل بين الشعوب المتابعة من بعيد.. علماء الاجتماع يشيرون إلى أن الخوف المتواصل.. قد يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية.. فالشعوب التي تشاهد هذا العنف يومياً.. قد تصل إلى نقطة اليأس والعجز.. خاصة إذا لم ترَ نهاية واضحة للصراع.. هذه المشاهد المتكررة.. قد تُضعف الدعم الشعبي للمقاومة.. وتُعزز دعوات وقف العمليات بأي ثمن.. مما يحقق أهداف الاحتلال في زعزعة الوحدة المعنوية للشعوب العربية..
ورغم ذلك.. يرى البعض أن استمرار بث الجرائم.. قد يزيد من صلابة الشعوب المقاومة.. فالتعرض المستمر للمظالم.. قد يُعزز الشعور بالظلم والرغبة في المقاومة.. كما أشار عالم النفس "فيكتور فرانكل" في كتابه "الإنسان يبحث عن معنى".. الذي عاش تجربة معسكرات الاعتقال النازية.. إلى أن المعاناة المشتركة.. قد تكون دافعاً للصمود والتحمل.. وهنا يظهر التحدي بين تأثير اليأس وتأثير الصمود.. فهل تُساهم هذه الصور في تعزيز الصمود الجماعي؟!.. أم أنها تُضعف معنويات الأفراد؟!..
اللافت.. أن الشعوب ليست الوحيدة المتأثرة بهذه المشاهد.. بل الحكومات الدولية أيضاً.. فالإعلام لم يعد مجرد أداة لتوثيق الجرائم.. بل وسيلة للضغط السياسي.. في الحروب الحديثة.. أصبحت الكاميرا والبث الحي من أهم أدوات التأثير على الحكومات وصناع القرار.. ومع ذلك.. فإن الإفراط في بث العنف.. قد يؤدي إلى تبلد المجتمعات الدولية.. فتُحوّل القضايا الإنسانية إلى مجرد أخبار عابرة لا تُحدث أثراً طويل الأمد.. وهذا التحدي يتطلب إعادة التفكير في كيفية توظيف الإعلام في زمن الحروب..
وهنا يبقى السؤال.. هل يُساهم بث الجرائم في رفع الروح المعنوية وزيادة الصلابة؟!.. أم أنه يُساعد في تحقيق أهداف الاحتلال في زعزعة معنويات الشعوب؟!..