في مثل هذه الايام من عام ١٩٨٠ كنت واحدا من القلة الذين لا يزالوا يرتدون بدلات السفاري . حتى عند ذهابي للولايات المتحدة الأمريكية في البعثة الدراسية لنيل الدكتوراة لم يكن في حقيبة سفري الا بدلة سفاري واحدة اما الأخرى فكنت مرتديا لها.
كنا نحن ابناء الفلاحين نجد ان هذه البدلات تناسبنا اكثر من البدلات الفرنجية وكانت الالوان محصورة في عدد من الوان البيج والترابي واحيانا الأزرق السماوي وفي حالات قليلة الاسود.
كنت قد وصلت إلى جامعة جنوب كاليفورنيا في ٢٢ آب ١٩٨٠ وكان ينتظرني في المطار الصديق محمد محمود الذنيبات الذي كان وقتها طالبا في برنامج الدكتوراة في الإدارة العامة هو وصديقه الاعز انذاك عبدالله العكايلة.
لقد استقبلني اخي ابو المعتصم في مطار لوس أنجلوس بحب ودفء وكان يرفع لافتة كتب عليها اسمي مع اني اعرفه جيدا لكنه أراد ان يتخذ كل الاحتياطات ولا يعول على ذاكرتي التي ربما لا تكون بقوة ملاحظته واحتياطاته وتحفزه . ما ان خرجت من بوابة التدقيق الجمركي حتى لمحت اخي محمد ببدلته التي تشبه بدلتي من بعيد فقد نكون الاثنين الوحيدين الذين ارتديا هذا النوع من اللباس في قاعات" LA X" ..وادركت حينها اني غادرت اهلي الى بيت اهلي .
حتى اليوم ومع اني زرت اكثر من ١٠٠ بلد في العالم وتجولت هنا وهناك فقد بقيت ذكرى وضع اقدامي على أرض كاليفورنيا بالغة التأثير على فكري وذاكرتي ووجداني وظلت صورة الصديق محمد الذنيبات المضيف الدافيء الحميم عالقة في رأسي لا تغيب ابدا.
لمحمد الذنيبات مهارة فائقة في التواصل الانساني لا يعرفها إلا من اقترب منه كثيرا . فاضافة الا تكريمك بمجاملته واستماعه لما تقول وتكراره لعبارة " نعم صحيح " يحرص ابو المعتصم على ان يضع نفسه مكانك ويتولى هو طرح الأسئلة التي قد تدور في خلدك ويجيب عليها عنك فينزع من جليسه المبادرة برفق ويستثمر الوقت بالوصول الى الاستنتاجات دون الحاجة الى مقدمات.
في ذلك المساء كان محمد الذنيبات قد جهز لي شقة لاحد زملاءه السعوديين لاقيم فيها لبضعة ايام ريثما أجد السكن الملائم . لقد اقمت في ضيافة اخي ابو المعتصم ورجوته ان يطلق سراحي فقد أحسست بأن علي ان انتقل الى السكن الطلابي او أجد السكن المستقل لاباشر رحلتي التعليمية الجديدة .
استجاب المضيف لطلبي واخذني الى السكن المؤقت الذي يؤمه الطلبة الجدد فبدأت اشعر بصدمة الاختلاف الثقافي حيث تشاركت وطالب أمريكي في غرفة واحدة وكانت التجربة الأولى لمقارنة مدى التباين في السلوك والمظهر والعادات والقيم. كنت لا امانع ان أقيم أطول لولا صدمتي الكبيرة ببعض المظاهر التي لا يمكن لشرطي قادم من بلاد محافظة ان يتغاضى عنها.
خلال أيام كان الصديق عبدالله العكايلة قد عاد من إجازته في الاردن ورافقني في رحلة البحث عن سكن مستقل قريب من الجامعة . لقد نجحنا بالحصول على شقة في شارع ٢١ الموازي لجيفرسون الواقع على أطراف الحرم الجامعي . كان السكن مدعوما حكوميا وقريبا من السوبر ماركت الأهم في الحي وغير بعيد عن محطة الوقود التي يمتلكها ال حداد على زاوية الشارع. فقد كانت هذه الاسرة تدير المحطة ويتناوب الأخوة على الإشراف على سير عملها وحمايتها من اللصوص كونها الأقرب الى اكثر احياء المدينة اجراما.
مضت ايام وتعرفنا على الزملاء ياسر العدوان وصالح عبيدات وعمر المحادين وعاطف عضيبات وعبدالله عويدات وفارس العمارين وعادل الكركي وظريف البرادعي ونايف الزعبي ومحمد العدينات وعدد كبير من الاردنين الذين انتشروا على مساحة الفضاء الجامعي في كاليفورنيا..
بعد عام من وصولي وكنت قد أنهيت متطلبات الماجستير في الإدارة العامة وحصلت على قبول في كلية العلوم الاجتماعية قسم علم الاجتماع توجهت الى الاستراحة التي يلتقي فيها طلبة البرنامج الدولي للإدارة العامة واذا بشاب أنيق يرتدي بدلة سفاري بلون ترابي .لم اتردد في الحسم بأنه اردني كان قد وصل للتو للالتحاق ببرنامج الإدارة العامة كان هذا الرجل الانيق المنظم الحذر المقدم سلاح جو معروف سليمان البخيت .
تقدمت باتجاهه وقلت له اني فلان من الاردن فاجبني بأنه هو الاخر من الاردن وقد جاء بعثه دراسية لنيل الماجستير في الإدارة العامة جلسنا معا وتحدثنا كثيرا وذهبنا الى حيث يقيم واخذنا امتعته وتجولنا في ارجاء المدينة بسيارتي البونتيك العملاقة التي سرقت عجلاتها مرارا بعدما ركبها اللصوص على مربع من الطوب ليتمكنوا من فك كل ما يمكن بيعه من قطعها.
منذ شهر أكتوبر من عام ١٩٨١ وحتى قبل رحيله بأسبوع لم تنقطع علاقتي بمعروف فقد بقي اخا وصديقا دافئا محبا وفيا . يمتاز ابو سليمان بذاكرة فوتوغرافية يصعب ان تجد لها مثيلا .وهو شخص يحب الرتابة والدقة والانضباط.. ولا يابه للتهريج والثرثرة .لا يقابل ابو سليمان الناس الا وهو بكامل اناقته ويحلق ذقنه بعناية فائقة يهتم بالتاريخ ويسرد لك الوقائع باليوم والساعة والدقيقة ان تمكن . لا يسرف ابو سليمان في الحديث ولا يرغب في استغابة الاخرين ولا الاستماع لاحاديث الاستغابة يحاول اقناع من حوله بما يعتقد . في داخله سخرية دفينة ..على الصعيد الشخصي زاهد وغير استعراضي اصدقاؤه المقربين قلائل ويحب ان يزور شقيقته من وقت لاخر لتعد له اكلات من الماضي .
خلال توليه رئاسة الوزراء حرص معروف على ان يقدم شيء للفقراء فقد وافق على خطة هيكلة الإدارة العامة التي زادت بموجبها رواتب الموظفين وربما انها الزيادة الاخيرة التي تحصلوا عليها . كما نسبت حكومته الأولى بمنح إعفاء جمركي لسيارات المتقاعدين وكانت هذه المرة الاخيرة التي حصل فيها مثل هذا الاعفاء بهذا الحجم.
اعتقد ان دولة المرحوم البخيت اجتهد في تحقيق ما يمكن تحقيقه ولم يعرف عنه انه نهب او ارتشى او فسد فقد كان عزيزا كريم النفس متواضعا وقريب من الناس ..رحم الله معروف البخيت واسكنه فسيح جنانه.