حين تُزيِف الألقابُ الوعي .. وتُباع المعرفة بثمنٍ بخس
محمود الدباس - ابو الليث
01-10-2024 11:52 AM
كثيراً ما نخدع بالمظاهر.. نرى الألقاب اللامعة.. ونتوهم أن خلفها عقولاً نيرة.. تمتلك الوعي والفهم والمعرفة.. نلتقي بشخص يعرّف نفسه بلقب "الدكتور فلان".. ونعتقد مباشرة.. أن هذا اللقب يفتح أبواب الحكمة والتفكير العميق.. فنحترم عقله.. ونتحدث معه وكأننا نخاطب مرجعاً علمياً.. فنرفع مستوى الحديث لكي نرتقي إلى ما نتخيل أنه من شأنه العالي.. ولكن الصدمة الكبرى تأتي مع اول رد منه.. والذي ينبء عن مدى سطحيته وخوائه.. عندها ندرك أن هذا الدكتور قد حصل على شهادته من جامعة في ذيل ترتيب الجامعات العالمية.. جامعة لا تهتم بما تقدمه من علم.. بقدر ما تهتم بما يدخل إلى جيوبها.. فيتخرج منها أشخاص لا يحملون سوى ورقة تحمل لقباً.. بينما عقولهم خاوية.. ينطبق عليهم قول الله تعالى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.. فليس كل من حمل لقباً.. حمل معه المعرفة..
ولعل المؤسسات ليست بعيدة عن هذا المشهد المخزي.. تقرأ اسم مؤسسة.. وتعتقد أنها منارة فكرية.. تُصدر الأبحاث العميقة.. والدراسات الاستراتيجية الدقيقة.. فتذهب لتتعرف عليها عن قرب.. فتجدها مجرد دكان.. تتكدس فيه الأوراق والعناوين التي جُمعت من الإنترنت.. ثم يُعاد ترتيبها وتزيينها بكلمات براقة.. تخدع السطحيين.. لا شيء حقيقي في الداخل.. مجرد وهج خادع.. يسحر من لا يعرف عمق الأمور.. يحسبون أن تحت هذه القبة وليّاً.. ولكن الحقيقة أنها قبة فارغة.. تغطي عقولاً لا ترى أبعد من مصالحها..
إن ما يثير الاستياء هو أن هذه المظاهر الخادعة.. أصبحت سمة من سمات عصرنا.. يتوهم البعض أن الألقاب الرنانة.. والمؤسسات ذات الأسماء الكبيرة.. تعني جودة الفكر.. وعمق المعرفة.. بينما الحقيقة غالباً ما تكون عكس ذلك تماماً..
فالمعرفة وهي تراكم الخبرات والمعلومات التي يكتسبها الإنسان.. أو المؤسسة عبر الزمن.. لا تُعطى بمجرد لقب أو اسم.. بل هي نتاج العمل والفكر والتجربة.. كما أن الفهم.. وهو القدرة على تحليل المعلومات.. واستيعاب معانيها الحقيقية.. لا يتحقق إلا لمن يمتلك قدرة عميقة على الربط بين الأفكار.. أما الوعي.. وهو الإدراك الكامل والشامل للأحداث.. والظواهر من حولنا.. فلا يأتي إلا من خلال النظر العميق في الحياة.. وهو ما يفتقده الكثير ممن يحملون مسمياتٍ براقة..
مثل هذه الشخصيات والمؤسسات ليست إلا تماثيل جوفاء.. تمجدها الجموع دون أن تدرك مدى هشاشتها.. يأتونك بوجوهٍ ملونة.. يلبسون أقنعة من العظمة.. بينما عقولهم لا تتجاوز حدود البحث عن منفعة ذاتية.. أو مصلحة ضيقة.. والمؤسف أن الكثيرين يتبعونهم دون تمعن.. لأنهم مغيبون عن الحقيقة.. يخافون من مواجهة الوهم الذي يعيشون فيه..
نعيش في عالم يظن فيه الناس أن الألقاب تغني عن الحقيقة.. وأن المظاهر تكفي لتعويض نقص الوعي والفهم.. ولكن الوعي الحقيقي يتطلب شجاعة.. شجاعة لتفكيك هذه الأوهام.. والنظر إلى ما وراء الستار.. حيث لا يوجد سوى فراغ وخداع..
علينا أن نكون أكثر وعياً.. ألا ننخدع بالألقاب والمسميات.. وأن ندرك أن المعرفة ليست حكراً على من يحملون شهادات.. أو يعملون في مؤسسات براقة.. بل هي ملك لكل من يسعى ويفكر ويتأمل.. في هذا العالم الممتلئ بالزيف.. يحتاج العقلاء إلى الوقوف بصلابة ضد هذه الخدع.. وأن يمدوا أرجلهم كما فعل أبو حنيفة.. حين أدرك زيف ذلك الرجل الذي توهم أنه عالم..