الصدمات الاستراتيجية في عالم "الفوكا"
صالح سليم الحموري
01-10-2024 10:08 AM
يشهد العالم اليوم تحولات سريعة وغير متوقعة في مختلف المجالات، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو التكنولوجيا أو المجتمع. هذه التغيرات تحدث في بيئة تعرف باسم "عالم الفوكا"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف حالة من التقلب، عدم اليقين، التعقيد، والغموض. يعكس عالم الفوكا حالة من التغير المستمر، حيث يصبح من الصعب التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل، وهو ما يفرض على الحكومات اتخاذ قرارات حاسمة ومدروسة لمواجهة التحديات التي تنشأ في هذا السياق.
في هذه البيئة المتغيرة، لم تعد النماذج التقليدية لصنع القرار كافية أو فعالة. الحكومات تحتاج إلى تبني نهج مرن ورشيق يعتمد على التحليل العميق للبيانات والتكنولوجيات الحديثة لتقييم المخاطر والفرص. لا يتعلق الأمر باتخاذ قرارات سريعة فقط، بل بقرارات جريئة ومبنية على بيانات دقيقة وتحليلات موثوقة تضمن استجابة فعالة للأزمات المتزايدة.
من خلال تقرير أصدرته القمة العالمية للحكومات بعنوان "قرارات حاسمة أمام قادة الحكومات في عالم متغير"، يتضح أن الصدمات الاستراتيجية تمثل واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات في عالم الفوكا. هذه الصدمات تتضمن الأزمات الاقتصادية مثل التضخم السريع، أزمات الطاقة، والنزاعات الجيوسياسية التي تعطل سلاسل التوريد العالمية. على سبيل المثال، أدى الصراع بين أوكرانيا وروسيا إلى نقص في إمدادات القمح، مما أدى إلى أزمات غذائية في عدة دول. في ظل هذه الصدمات، يتعين على الحكومات اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة تضمن الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
التضخم المتزايد يمثل تحديًا آخر يجب معالجته بفعالية. فالحكومات تسعى إلى إيجاد التوازن بين دعم النمو الاقتصادي من جهة، والسيطرة على ارتفاع الأسعار من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يجب أن تستند القرارات الحكومية إلى سياسات مالية ونقدية محكمة، تضمن استقرار الأسعار مع تعزيز النشاط الاقتصادي.
في ظل الفوكا، تتزايد الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية بشكل ملحوظ، لا سيما فيما يتعلق بالتكنولوجيا الرقمية. ورغم انتشار التكنولوجيا على نطاق واسع، فإن حوالي نصف سكان العالم لا يزالون غير متصلين بالإنترنت، وهو ما يزيد من التفاوت بين المجتمعات. هذه الفجوة الرقمية تحد من قدرة الكثيرين على الاستفادة من الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية، وتعمق الفجوة بين الفئات المختلفة. لذلك، يتعين على الحكومات الاستثمار في تحسين البنية التحتية الرقمية وتوسيع نطاق الوصول إلى الإنترنت بشكل عادل، بما يضمن مشاركة اقتصادية واجتماعية شاملة للجميع.
في مواجهة هذه التحديات، يظهر مفهوم الحكومة كمنصة رقمية كحل مبتكر يمكن أن يساعد الحكومات في التحول من نماذج تقديم الخدمات التقليدية إلى منصات رقمية متكاملة. تتعاون هذه المنصات مع القطاع الخاص لتقديم خدمات حكومية ميسرة وفعالة. على سبيل المثال، تعد منصة GOV.UK في المملكة المتحدة نموذجًا رائدًا في هذا المجال، حيث تتيح للمواطنين الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات الحكومية مثل تقديم الضرائب والتسجيلات الرسمية من خلال بوابة رقمية موحدة. هذا النوع من الحلول يعزز من سرعة وفعالية تقديم الخدمات الحكومية في بيئة تتسم بالتغير السريع والتعقيد.
إضافة إلى ذلك، تحتاج الحكومات في عالم الفوكا إلى تسريع وتيرة التغيير من خلال تبني تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي، الذي يساعد في تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة ودقة، مما يسهم في اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة. ومع ذلك، يجب أن تكون هذه التقنيات مدعومة بإجراءات تنظيمية قوية لضمان الشفافية والمساءلة، خاصة فيما يتعلق بالخصوصية وتجنب التحيز في عملية صنع القرار.
من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات في هذا السياق أيضًا هي أزمات الطاقة. مع تزايد الطلب على مصادر الطاقة، تحتاج الحكومات إلى اتخاذ قرارات جريئة بشأن تنويع مصادر الطاقة والاعتماد بشكل أكبر على الطاقة المتجددة. التحول نحو الطاقة المستدامة ليس فقط خطوة ضرورية لحماية البيئة، بل هو أيضًا استجابة لتقلبات الأسواق الجيوسياسية التي تؤثر على إمدادات الطاقة. من خلال هذا التحول، تستطيع الحكومات تأمين مستقبل أكثر استقرارًا من ناحية الإمدادات الطاقية.
أخيرًا، يشير التقرير إلى أن الحوكمة الرشيدة والابتكار هما عنصران أساسيان لتحقيق النجاح في عالم الفوكا. ينبغي على الحكومات تعزيز الشفافية والمساءلة في عملياتها، وتطوير سياسات مرنة تمكنها من التكيف مع التغيرات السريعة. من جهة أخرى، يعد التعاون بين القطاعين العام والخاص وتبني الابتكار التكنولوجي من بين الأدوات الحاسمة التي يمكن أن تساعد الحكومات في التغلب على التحديات التي تواجهها، وضمان استدامة النمو والاستقرار في المستقبل.
* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتطوير/ كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.