وسط مسلسلات الأزمات المتتابعة التي يشهدها الأردن داخليا، وتلك التي تحاصره من الإقليم المضطرب، تبرز قيمة الابتكار السياسي والحاجة إلى جرأة القفزة الواثقة، بعيدا عن الرتابة وإدارة الأزمات بردود الأفعال. هذا يعني التفكير بكيمياء سياسية جديدة، تعيد إنتاج أهداف الدولة في الاستقرار والاستمرار.
ترتبط التحولات الكبرى التي شهدها العديد من المجتمعات الحديثة بما يسمى بالدفعة القوية، كما حدث في كوريا الجنوبية أو ماليزيا والهند حالياً. وقد تبدو هذه القوة التي تدفع المجتمعات نحو حركة تغيير شاملة مرتبطة بالمؤسسات، وأحيانا بأفراد يمتلكون خصائص مميزة، إلا أن مراجعة دقيقة لمشاريع النهضة المعاصرة توضح دور الابتكار السياسي للأفراد أو المؤسسات في قيادة التغيير، ما يدفعنا لإطلاق العنان للخيال لما يمكن أن ينتجه الابتكار السياسي من فرص للتغيير والتنمية في الأردن، كما هو الحال في تقديم ردود تاريخية ناضجة ومبدعة على التحديات الاستراتيجية الإقليمية.
خيال العامة يربط الابتكار عادة بالتقدم التكنولوجي، ويكاد يحصره في التقنيات، حيث لا توجد لدينا ثقافة ابتكارية تعزز قيم التجديد والإبداع في الحلول في مختلف مجالات الحياة، فما بالك حينما نتحدث عن الابتكار السياسي، حتما سنجد الكثير من الاستغراب وربما الرفض، فيما تثبت الحقائق كل يوم أن حركة التميز في التاريخ التي قادت التغيير والتحولات الكبرى في العلوم والتقنيات وفي أحوال المجتمعات وأنتجت القيم الإيجابية الكبرى يرجع الفضل الأول فيها إلى الابتكارات السياسية.
الابتكار في الحياة الاقتصادية مثل القروض الصغيرة، أنماط جديدة من شركات الأعمال، حلول ابتكارية للتشغيل وزيادة الإنتاج والطلب، ابتكارات جديدة تقدم حلولا مبدعة لرفع إنتاجية المرأة، ابتكارات جديدة في نظم التعليم أو الصحة أو الزراعة والغذاء والبيئة، وابتكارات جاذبة في السياحة؛ كل تلك المنظومات من الحلول الاقتصادية التي يحتاجها بلد مثل الأردن يقف على الحافة بين التحديث والتقليدية تكمن في رؤية سياسية ابتكارية راسخة في الأرض على قدر ما تتمتع بروح المغامرة الواثقة.
إنها الحلول السياسية الابتكارية التي تخلق جاذبية خارقة لتحويل أولويات الناس وجذبهم بسرعة وثقة نحو الاندماج في التغيير. الابتكار يسري كالنار؛ تصوروا أن ابتكارا تقنيا كالهاتف المحمول انتشر خلال أقل من عقدين ووصل إلى 70% من سكان الأرض، وهو ما تجاوز انتشار معرفة الكتابة والقراءة التي بدأها الإنسان لأول مرة قبل نحو خمسة آلاف سنة، تصورا الرؤية السياسية الابتكارية في دول مثل فنلندا والسويد التي دشنت أول الشبكات الخلوية كيف قادت إلى رؤية اقتصادية تكنولوجية غيرت وجه العالم.
إذا كان الابتكار السياسي يشكل القوة الدافعة الأولى للتغيير، فإن هناك علاقة تبادلية بين الابتكار الاقتصادي والاجتماعي، بمعنى أن فكرة تعديل سلوك الأفراد في موضوع ما مثل الرعاية الصحية والرياضة أو إدارة استخدامات المياه المنزلية، ستقود هذه الابتكارات الاجتماعية وتدخل في شبكة متداخلة من الابتكارات الاقتصادية، حيث يعمل قانون "جاذبية المجتمع ودفع السوق" عمله. ولا يمكن أن نتصور بالفعل الدخول في هذه الشبكة من الابتكارات الاقتصادية إلى جانب الابتكارات الثقافية والاجتماعية من دون وجود الرؤية الابتكارية السياسية حيث الكيمياء التي تمزج هذه المركبات وتنتج منها التغيير والتحديث والعبور الآمن.
كم نحتاج في الأردن إلى كيمياء سياسية جديدة لكي نتجاوز الحافة. وكم نحن بحاجة إلى ابتكاريين جدد لتحضير هذا المركب.
(الغد)