مئوية الاستبداد: ثورتان وموقف واحد
د.مهند مبيضين
11-08-2007 03:00 AM
يعقد مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول (إرسيكا)، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي مؤتمراً دولياً بعنوان "الدستور العثماني في الذكرى المئوية لإعلانه" خلال الفترة من 7 إلى 10 أيار(مايو) 2008. إذ يشكل إعلان الدستور للمرة الثانية عام 1908 إحدى نقاط التحول في التاريخ العثماني والعربي الحديث، وقد اعتبر إعلانه مرة اخرى مقدمة لنهاية عصر الاستبداد، وبداية للأحداث التي صاغت ملامح الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط والبلقان. وتعارف الجميع على ان يسموا تلك المرحلة بالمشروطية. ولما كانت النخبة التركية والعثمانية بما فيها العرب والمسلمون آنذاك منفردة في الرغبة بالحد من الاستبداد، فقد تزامنت معها ايران القاجارية، التي قامت بها ثورة دستورية بين الأعوام 1905-1911م وانتهت باعلان المشروطية او الدستور في ايران.عمليا تفصلنا عن التجربة الدستورية مائة سنة، لم نتقدم فيها كثيرا، بقدر ما ازدادت فيها قبضة السلطة واستبدادها، فمع أن الأردنيين مثلوا كغيرهم من العرب في مجلس المبعوثان، إلا ان بلادهم كانت تشهد بعد عودة العمل بالدستور بعام، ثورة محلية في منطقة الكرك عام 1909م، وكان من نتائجها ممارسة الاتراك للسلطة بشكل تعسفي، ولا تزال الذاكرة الشعبية تروي ذلك العسف.
كانت التجربة الدستورية آلت في إيران وتركيا إلى إعلان حكومتين دستوريتين، وتشكيل مجلس حكم وتم انتخاب نواب عن المناطق كافة، وبرغم أن الشاه محمد علي القاجاري حاول التنصل من الدعوة إلى المشروطية وضرب البرلمان الايراني في 23 حزيران 1908 وحله، وشكل حكومة عسكرية بعد سنتين على أول انتخابات وأول برلمان وأول دستور في إيران وبذلك انتهت المشروطية بزج أنصارها في السجون.
وما كان من زعماء الحركة الدستورية إلا أن يتحركوا ضد الشاه، فأصدر زعيم المشروطية آية الله محمد الطبطبائي ومعه نفر من أنصاره فتوى ضد الشاه محمد علي القاجاري، وبعثوا برسالة إلى السلطان عبدالحميد ورئيس مجلس المبعوثان وشيخ الإسلام في اسطنبول حرضوا فيها رموز السلطة العثمانية ضد الشاه وطالبوا بإسقاطه وإعلان الدستور مرة أخرى، ولقيت مجموعة الفتاوى تأييدا واسعا، أدى إلى خلع الشاه وتولى مكانه ابنه أحمد شاه، وأعيد العمل بالدستور واستعادة المشروطية قوتها من جديد.
في الجانب الآخر، مارس الدستوريون الأتراك ضغوطهم على السلطان عبد الحميد بضرورة إعادة العمل بالدستور المعطل – دستور 1867 الذي عطل سنة 1878- واتصل المطالبون بالدستور بمراجع النجف العلمية، وتعاطف معهم الملا كاظم الخراساني(ت:1911م) فأرسل رسالة شديدة يؤيد فيها الحركة الدستورية، ونتيجة لضغوط المراجع الشيعة وعلماء السنة تدخل شيخ الإسلام حاثاً السلطان عبد الحميد على ضرورة تحقيق مطالب الدستوريين. وبهذا نجحت الحركة الدستورية مرة أخرى وأعلن الدستور في يوم 23 تموز 1908 والتأم مجلس المبعوثان من جديد رغماً عن إرادة السلطان عبد الحميد الذي لم يطل به البقاء أمام قوة الدستوريين، الذين صدّروا فتوى بخلعه وقعها شيخ الإسلام، وشكل وفد لتبليغ عبد الحميد الثاني بها، وتنصيب السلطان محمد رشاد مكانه. وحدث أن ذهب الوفد لتبيلغ السلطان المخلوع بقرار الخلع، وعندما وصل الوفد وجدوه في إحدى الصالونات مرتديا حلة سوداء. فقالوا له:" الأمة خلعتك"، وسأل عن حياته فأجابوه بالأمان، فاختار أن يقضيها في قصر جرغان، إلا انه انتهى في قصر بسيط في قرية قريبة من سلانيك.
بارك العرب انتصار الحركة الدستورية في تركيا، وكان إعلان الدستور مناسبة لإظهار الفرحة بانتصار الدستورية على الاستبداد في إيران وتركيا معاً، ولعل خير من عبر عن المصير المشترك الشاعر معروف الرصافي ومما قال:
راعت سلانيك دار الملك فانتبهت
من ذاك طهران أن تخشى أمر تبريزا
وبهذا انتهى رمزا الاستبداد في إيران وتركيا إلى الخلع، لكن آفاق التجربة لم تستمر طويلا، فإيران ما لبثت أن اختنقت في منتصف القرن العشرين في أعقاب ثورة مصدق، وتمكين السلطة الملكية بعدها، وآلت في نهاية السبعينات إلى خنقة أخرى انتهت بإيران بنظام ولاياتي يستمد سلطة من الله.
أما العرب فقد انتهوا بعد مائة عام من إنشاء أول حزب في مصر 1907 وأول جامعة، إلى حالة أكثر اختناقا تصل حدّ حاضرنا اليوم، برغم كل الوعود بالحياة الأفضل.
يحق للأتراك الاحتفال بإرثهم الثوري من اجل الدستور، ويحق كذلك للإيرانيين ان يتذكروا أنهم بثورتهم الدستورية انهوا استبداد اسرة آل بهلوي، أما نحن العرب فيبدو أن خسارتنا كانت أجسم في مسيرة الإصلاح والنهضة ورفض الاستبداد، كما أننا خسرنا المعرفة، وقبلنا زيف الثورات العسكرية التي اتت بالقائد الرمز الوحيد في القرار، أنسنا الوعود الكبيرة بالحرية، والحياة الفضلى والتقدم، ولم يحدث شيء من ذاك، وكانت النتيجة المزيد من التوتر والضعف والانهيار والتخلف، والقهر الذي يتمظهر كل يوم بشكل وقالب جديدين.
سيتذكر الاترك تاريخهم في الدفاع عن الحرية، ومن حقنا ان نتذكر هبات رعايا السلطان العثماني في بلادنا، فهناك ثورة في الشوبك واخرى في الكرك وبعدهما كانت نهضة العرب ضد الاتراك عام 1916، سيكون امامنا اعوام مليئة باسئلة التاريخ، وعلينا ان نجيب عنها، وعندما يكون هناك وعي بالتاريخ لن يكون هناك مشكلة على من تقع الإدانة.
يحدث هذا في ظل عبور العالم إلى الموجة الثالثة من الديمقراطية العالمية، فيما نحن ما نزال لم نبرح الزمن العثماني والاتفاق بعد على تقويم أحوالنا فيه، من حيث تقدم الفكرة الدستورية واحترامها في حياتنا، ولعل الثابت أننا لم نبن مؤسسات دستورية محصنة وقادرة على الصمود في وجه الاستبداد، ولم نبن فردا ولا مواطنة ناجزة.
mohannad974@yahoo.com