تجسدت ذكرياتي في جبل التاج، حيث كان المساء يحمل عبق الفلافل، ويبدأ عند أذان المغرب. في تلك اللحظات، كانت حواسي كلها تستيقظ؛ فقد كانت رائحة الكمون تملأ المكان، وعيناي تتابع الفلافل وهي تتراقص في الزيت، بينما كنت أشعر بيدي تتحسسان تلك الأقراص المقرمشة.
في مطعم "فلسطين"، كانت تجارب الطفولة تتشكل، فهو المكان الذي لم أعرف غيره. كان هناك مهرجان ليلي خاص، يبدأ معلم الفلافل بمهارة يديه، التي كانت تتحرك بسرعة لتحويل الحبات إلى اللون الذهبي. أتذكر كيف كنت أشتري فلافل بخمسة قروش، وأطلب منه أن يضع الشطة، ورغم أنني لم أكن أستطيع تناول أكثر من ثلاث حبات، إلا أنني كنت أشعر بالشبع.
كنا نستمتع بالفلافل مع كأس من الشاي، وكانت الحكايات تتوالى حتى أذان العشاء. بعد ذلك، نتوجه للصلاة في مسجد الشهيد، أو ربما نذهب إلى دكان أبو خميس، الذي كان يعد كالمول في زمنه، حيث تجد كل ما تحتاجه، بما في ذلك أصناف الدخان المختلفة.
ومع انتهاء يومنا، كانت الدراسة تنتظرنا. كان أستاذنا في مادة اللغة العربية، الأستاذ فاضل، يطلب منا نسخ الدروس مرات عديدة. لكنني كنت أشعر بالملل من تكرار النسخ، لذا اخترعت قصصاً وحكايات بدلاً من كتابة الدرس. وذات مرة، انتبه الأستاذ لذلك، وقرأ ما كتبته، دون أن يؤنبني بشكل مباشر. بعد تصحيح الدفاتر، أشار إلى الأمر مهدداً، لكنه لم يذكر اسمي، وانتهى بابتسامة لم أفهم مغزاها.
تتوالى الذكريات، ويبقى جبل التاج حاضراً في ذهني، برائحة الفلافل، وصوت الأذان، وحكايات سكة الحديد المقابلة.