الإصلاح السياسي والمؤسسي في خطاب التكليف السامي
النائب الدكتور شاهر شطناوي
26-09-2024 08:22 PM
دائما ما تحمل كتب وخطابات جلالة الملك رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية متوازنة، تشكل بمجملها منهج الحياة المدنية التي يحلم بها الأردنيون جميعا، وإن المتتبع لكتب التكليف السامي وخطابات العرش والأوراق النقاشية السبع سيجد أن جلالته يركز في مجموعها على محاور متعددة تشكل منظومة إصلاحية شمولية للعمل السياسي والمؤسسي والاقتصادي وكافة المحاور القطاعية التي تشكل منظومة الدولة.
وقد جاء كتاب التكليف السامي لدولة جعفر حسان في سياق سياسي حساس، يعكس توجيهات جلالة الملك ورؤيته الإصلاحية، والاستجابة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الأردن، وسأتناول في هذا المقال والمقالات القادمة تحليلا لهذا الكتاب من منظور المفاهيم السياسية التي ترتبط بالعلاقة بين الدولة والسلطة والمجتمع المدني.
فقد جاء المحور الأول من الكتاب محملا برؤية واضحة نحو الإصلاح السياسي والمؤسسي، وترتكز فكرة الإصلاح السياسي التي يريدها جلالته على التحول من حالة سياسية إلى أخرى أكثر توافقًا مع تطلعات الشعب ومبادئ العدالة، والإصلاح بمفهومه العام حركة ديناميكية نحو التحول، ولكنه أيضًا يتطلب قاعدة ثابتة تبنى عليها السياسات، ويمكن النظر إلى دعوة جلالة الملك لتحديث الأطر القانونية والدستورية من ناحية التجسيد لفكرة العقد الاجتماعي، الذي ينص على أن شرعية الحكومة تأتي من موافقة المحكومين، وتسريع وتيرة هذه الإصلاحات على مستوى السياسية كما طلب جلالته يعكس التزام الدولة بتحقيق رغبات المواطنين مع الحفاظ على النظام العام والشرعية الدستورية.
ولا شك أن السياسة المعاصرة دائمًا ما تواجه تحديًا في الموازنة بين الاستقرار والتغيير من جهة، فهناك ضرورة لإبقاء النظام السياسي مستقرًا وقادرًا على إدارة الأمور بفاعلية، ومن جهة أخرى، يتطلب التغيير السياسي إصلاحات مستمرة ليتكيف مع الواقع المتغير والمطالب الشعبية، وبالنظر إلى جدلية الثابت والمتغير، فإن الإصلاحات الدستورية والحزبية التي دعا لها جلالة الملك تتماشى مع هذه الفكرة، حيث تسعى الدولة الأردنية بكافة مكوناتها المؤسسية وأجهزتها الإدارية للحفاظ على الاستقرار من خلال تبني الإصلاحات، وليس عن طريق مقاومة التغيير.
ومن هنا جاءت دعوة جلالته لتعزيز المشاركة السياسية وتوسيع قاعدة الديمقراطية لتتماشى مع مبادئ الإرادة العامة، فالديمقراطية الحقيقية لا تتحقق إلا عندما يكون جميع أفراد الشعب جزءًا من عملية صنع القرار السياسي، وليس مجرد متلقين للقرارات، ومن هذا المنطلق، يؤكد جلالة الملك على أهمية دعم الحياة الحزبية والبرلمانية كخطوة نحو بناء إرادة عامة تتوافق مع طموحات الشعب، ولا شك أن إشراك المزيد من الفاعلين السياسيين في الحكم يُعتبر وسيلة لزيادة الشرعية السياسية.
وبالنظر إلى مبدأ الشفافية التي أوصها بها جلالته في كتابه والتي يراها شرطا أساسيا للحكم الرشيد، من ناحية أنها تخلق المساءلة السياسية، وتتيح للمواطنين فهم القرارات والسياسات التي تؤثر على حياتهم اليومية، وفي ضوء هذا، فإن تأكيد الملك على ضرورة تعزيز مبدأ الشفافية يعكس رغبة في بناء دولة تُدار فيها السلطة بشكل واضح ومفهوم للجميع.
وفي نفس السياق فإن الإصلاح الحزبي وتفعيل الحياة البرلمانية اللذان جاءا في كتاب التكليف يعكسان محاولة لتنظيم المنافسة السياسية ضمن أطر مؤسسية، فالأحزاب السياسية في الرؤية الملكية تعتبر قنوات لتنظيم المصالح الجماعية داخل الدولة، وهي ضرورية لخلق استقرار سياسي وديمقراطية حقيقية، والأحزاب السياسية هنا تمثل الجماعات الاجتماعية المختلفة، وتعبّر عن مصالحها ضمن هيكل سياسي قانوني مؤطر ببرامج تسمح بالتعددية والمنافسة، وتحديث العمل الحزبي الذي يدعو له جلالة الملك يعني دفع الأردن نحو دمقرطةٍ أكثر نضجًا، مما يتيح للأحزاب أن تصبح ممثلة حقيقية للشعب داخل النظام السياسي، وليس مجرد آليات شكلية.
فالديمقراطية التي يدعو لها جلالته تتجاوز مجرد الانتخابات أو التمثيل السياسي، بل إنها تتعدى لترتبط بحقوق المواطنة الكاملة، فرؤية جلالته للديموقراطية تتمثل في نظام يسعى لتعزيز المشاركة الاقتصادية والاجتماعية بجانب المشاركة السياسية، ولا شك أن هذه الدعوة لا تنفصل عن مطالب المواطنين بالعدالة الاجتماعية والمساواة، مما يعكس فهمًا عميقًا لدى جلالته للعلاقة بين الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية.
وفي المجمل، فإن الرؤية التي وجهها الملك في كتابه تمثل توجهاً نحو إصلاح سياسي مؤسسي يتماشى مع التوجهات التي تركز على دور الدولة في تحقيق العدالة والمشاركة والشفافية، وجاء هذا في إطار الإصلاح السياسي الذي ينادي به الملك ليس كمجرد استجابة للتحديات الآنية، بل كجزء من رؤية أوسع لبناء دولة أكثر استقرارًا وتماسكًا في مواجهة التحديات العالمية والمحلية.