بمتابعة ردود الأفعال، يمكن وصف خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في المقر العام بالأمم المتحدة بالخطاب الجامع الشامل من حيث الإحاطة بأدق التفاصيل على كل المستويات السياسية والأمنية والوطنية والديموغرافية والإقليمية والعالمية.
يرجع الخطاب عربة الخطاب العالمي إلى مسارها العقلاني بعد أن اختطفها جنون القتل والوحشية والانتقام، ووضع أطر قانونية من خلال الرسالة الواضحة بما قيمة عملنا كأمم متحدة؟ ولن تجد أوضح من كلمات جلالته في خطابه المباشر للعالم بقوله: "تتعرض الأمم المتحدة للهجوم، بشكل فعلي ومعنوي. منذ قرابة العام، وعلم الأمم المتحدة الأزرق المرفوع فوق الملاجئ والمدارس في غزة يعجز عن حماية المدنيين الأبرياء من القصف العسكري الإسرائيلي".
ويمضي بإيصال رسالة كل شعوب المنطقة من خلال وضع قادة العالم أمام كلفة هذا الإحباط واليأس الذي يتسرب إلى أبناء معسكر العدالة والقانون والسلم العالمي جراء العجز عن عمل أي شيء من أهم مؤسسة دولية مختصة بحفظ السلم الدولي أمام تغول الآلة العسكرية الدموية لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي لم تعد تخضع لأي قانون ولا ميثاق.
إنها وصفة حتمية للفوضى، كما أشار جلالته بقوله: "في ظل غياب المساءلة الدولية، تصبح هذه الفظائع أمرا معتادا، الأمر الذي يهدد بمستقبل يسمح فيه بارتكاب مختلف الجرائم في أي مكان في العالم. هل هذا ما نريده؟".
إن اكثر ما يخشاه المجرم هو تسليط الضوء على جرائمه، وبذلك كان فضحه بالمنابر الدولية بكشف فظائعه ومخططاته بالأرقام هو إشارة لقوة وجرأة وصدق الخطاب؛ فالجريمة لا تنحصر في غزة بل تمتد إلى الضفة الغربية حيث قتلت الحكومة الإسرائيلية أكثر من 700 فلسطيني، منهم 160 طفلا، وتجاوز عدد الفلسطينيين المحتجزين في مراكز الاعتقال الإسرائيلية 10 آلاف و700 معتقل، منهم 400 امرأة و730 طفلا… 730 طفلا! وتم تهجير أكثر من 4 آلاف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم، كما تصاعد العنف المسلح الذي يمارسه المستوطنون بشكل كبير، وتم تهجير قرى بأكملها. أرقام تم فضحها على أهم منبر عالمي بعد أن ناضل الاحتلال الإسرائيلي بكل أدواته وشبكاته لحجبها عن العالم.
أرقام يقف خلفها حكومة من المتطرفين والإرهابيين الذين باتوا يسيطرون على مفاصل القرار في دولة الاحتلال والذين كما أشار جلالته لا يتورعون عن نشر خطابهم الإرهابي بكل جرأة وبلا أي رادع أو رقيب، فيقول جلالته: "لا بد من ضمان حماية الشعب الفلسطيني، ويحتم الواجب الأخلاقي على المجتمع الدولي، أن يتبنى آلية لحمايتهم في جميع الأراضي المحتلة، ومن شأن ذلك توفير الحماية للفلسطينيين والإسرائيليين من المتطرفين الذين يدفعون بمنطقتنا إلى حافة حرب شاملة.. ويشمل هؤلاء المتطرفون، الذين يروجون باستمرار لفكرة الأردن كوطن بديل. لذا دعوني أكن واضحا تماما: هذا لن يحدث أبدا. ولن نقبل أبدا بالتهجير القسري للفلسطينيين، فهو جريمة حرب".
نحن أمام خطاب متقدم في فهمه وطرحه وسياقه على خطابات دول العالم حتى في السردية التاريخية التي قدمها واستعان بها جلالته عندما استعاد خطاب الراحل الملك الحسين رحمه الله في الدورة الخامسة عشرة للهيئة؛ أي قبل ٦٤ عاما، بقوله: "أدعو الله أن يتحلى مجتمع الأمم هذا بالشجاعة لاتخاذ القرار بحكمة وجرأة، وأن يتخذ الإجراءات العاجلة بالحزم الذي تتطلبه هذه الأزمة، والذي تمليه علينا ضمائرنا".
إنها الرسالة الهاشمية التي حملها الأجداد والآباء ونلتف حولها شعباً مخلصاً لقيادتنا، والتي ختم بها جلالته رسالته للعالم: "لقد كان والدي رجلا قاتل من أجل السلام إلى آخر رمق، ومثل والدي تماما، فإنني أرفض أن أترك لأبنائي أو لأبنائكم مستقبلا يحكمه الاستسلام".