إدارة الاستراتيجية في بيئة مضطربة
صالح سليم الحموري
25-09-2024 01:18 PM
عند مراجعة النماذج الاستراتيجية المختلفة، يتضح للمخططين الاستراتيجيين أن تنفيذ الاستراتيجيات نادرًا ما يتم وفقًا للخطة الأصلية بالكامل. في الواقع، تطرأ تغيرات غير متوقعة أثناء التنفيذ، ما يستدعي تعديل الاستراتيجية وتكييفها مع الظروف الجديدة. هنا تتجلى أهمية "الاستراتيجية الرشيقة" التي تعتمد على القدرة على التكيف والتغيير عند مواجهة المستجدات.
فيما يتعلق بالاستراتيجية، فإن الكثيرين يرونها كخطة ثابتة ومحددة مسبقًا، لكن الواقع يختلف؛ فالاستراتيجية الناجحة هي تلك التي تحتوي على مرونة كافية لتتمكن من اكتشاف وتطبيق الحلول الجديدة أثناء عملية التنفيذ. يعود مفهوم الاستراتيجية إلى العصور القديمة، حيث كانت تُستخدم كأداة لتحقيق الانتصار في المعارك، خاصة عندما تكون الموارد والقوى غير متكافئة.
في عالمنا الحالي المتغير بسرعة، تواجه المؤسسات تحديات كبيرة تتطلب إدارة ذكية واستراتيجيات مرنة. إن البيئة الحديثة تتسم بالتحولات السريعة وغير المتوقعة، سواء نتيجة الابتكار التكنولوجي، أو تغيرات في سلوك المستهلكين، أو التحولات الاقتصادية والتنظيمية. هذه الديناميكيات تفرض على الشركات التخلي عن الأساليب التقليدية في التخطيط واعتماد استراتيجيات ديناميكية أكثر، قادرة على التكيف مع الواقع المتغير بسرعة وفعالية.
المؤسسات التي ترغب في البقاء والازدهار في مثل هذه البيئات بحاجة إلى التخلي عن الأساليب التقليدية في التخطيط طويل الأمد. يجب أن تركز على الرشاقة والقدرة على الاستجابة السريعة للتغيرات المفاجئة. فبدلاً من التمسك بخطط جامدة قد تصبح غير ملائمة في غضون أشهر، ينبغي للشركات تبني استراتيجيات تعتمد على التخطيط بالسيناريوهات المختلفة، وهو ما يسمح لها بالاستعداد لمجموعة من الاحتمالات. مراقبة السوق باستمرار هو جزء لا يتجزأ من هذه العملية، إذ يمكن للمؤسسات التكيف بشكل أسرع عندما تكون على دراية دائمة بالتحولات الخارجية، سواء في الاقتصاد العالمي أو في التنظيمات والقوانين الجديدة.
واحدة من الأدوات الهامة في هذه البيئة هي استخدام البيانات والتحليلات. إن تحليل البيانات المتقدمة يوفر للمؤسسات رؤى عميقة حول سلوك المتعاملين وتوجهات السوق، مما يسمح باتخاذ قرارات مدروسة، واستخدام علوم البصائر السلوكية، البيانات الآن ليست مجرد أداة للمراقبة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في تطوير استراتيجيات استباقية تمكّن المؤسسات من التنبؤ بالتغيرات المستقبلية. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر الذي تواجهه المؤسسات هو كيفية التعامل مع الحجم الكبير للبيانات وتنوعها وسرعتها، لذا يجب أن تكون أنظمتها التحليلية متطورة وفعالة.
رغم أهمية البيانات، فإن العنصر البشري لا يزال ركيزة أساسية في الاستراتيجية. القادة في المؤسسات يلعبون دورًا حاسمًا في تعزيز الصمود داخل فرقهم، خاصة في أوقات الأزمات. القادة الذين يفهمون احتياجات فرقهم العاطفية ويعززون ثقافة الصمود والابتكار هم أكثر قدرة على قيادة مؤسساتهم بنجاح خلال الفترات الصعبة. الموظفون أنفسهم يجب أن يُشجعوا على المشاركة بأفكارهم ومبادراتهم، حيث يمتلكون غالبًا رؤى قيمة حول التحسينات التشغيلية أو التوجهات الجديدة في السوق.
إلى جانب هذه العناصر، الابتكار يلعب دورًا محوريًا في إدارة الاستراتيجية بفعالية في بيئات مضطربة. المؤسسات التي تبنت الابتكار كجزء أساسي من استراتيجيتها كانت الأكثر قدرة على التكيف والاستفادة من التغيرات. الابتكار لا يتعلق فقط بتطوير منتجات أو خدمات جديدة، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تعريف طرق العمل، دخول أسواق جديدة، وتحسين الكفاءة التشغيلية.
مثال على البيئة المضطربة كان جائحة كوفيد-19. الجائحة أثرت على الاقتصاديات العالمية وأجبرت الشركات على إعادة النظر في استراتيجياتها. الشركات التي نجحت في هذه الفترة كانت تلك التي استثمرت في التحول الرقمي واعتمدت استراتيجيات مرنة. بعض الشركات، مثل مؤسسات التجزئة، تحولت سريعًا إلى التجارة الإلكترونية لتلبية احتياجات العملاء في ظل القيود المفروضة. كانت تلك الشركات مثالًا على أهمية الرشاقة والصمود في مواجهة التغيرات غير المتوقعة.
في النهاية، تبني استراتيجية فعالة في بيئة مضطربة يتطلب الجمع بين المرونة والابتكار، واستخدام البيانات بشكل ذكي، والاعتماد على القيادة الفعالة التي تدعم فرق العمل وتضع رؤية بعيدة المدى. المؤسسات التي تتبنى هذه القيم ستكون أكثر استعدادًا لتحويل التحديات إلى فرص وتحقيق النجاح في عالم مليء بالاضطرابات.
* صالح سليم الحموري /خبير التدريب والتطوير/ كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.