ما وراء الميتافيزيقا .. الأردن كمسرح السياسة والحياة
الدكتور رائد قاقيش
21-09-2024 03:33 PM
يتجاوز المسرح الأردني السياسي الحدود المادية ليغوص في عمق القضايا الوجودية والاجتماعية. يسعى هذا المسرح إلى استكشاف العلاقة بين الأفراد والنظام السياسي، مما يُبرز التوترات بين الطموحات الشخصية والمتطلبات الاجتماعية. في هذا الإطار، يُصبح المسرح منصة تعبير حيوية تمزج بين الفن والفكر السياسي.
تحت سماء زرقاء صافية، يمتد مشهد الأردن كخلفية درامية غنية بالتعقيدات. الشارع الرئيسي يعج بالناس، وكل فرد يحمل قصة خاصة تعكس آماله وإحباطاته. هنا، يُبرز "مسرح الضلال" كيف يمكن أن يتحول المواطنون، الذين يواجهون الظلال الثقيلة التي تلقيها السياسة على حياتهم، إلى شخصيات رئيسية في هذا العرض. يمثل كل مواطن جزءًا من مسرح سياسي واسع، يتجلى فيه الصراع من أجل الهوية والحرية، بينما يواجه الكثيرون جوعًا وقلة حيلة، وتحديات طفولة صعبة.
خلف الستائر، تتجمع الشخصيات الرئيسية: النواب والوزراء واصحاب القرار، يتبادلون الآراء حول مصير البلاد. يمثلون مختلف الأحزاب والاطياف، وكلٌ يسعى لتحقيق مصالحه، بينما الشارع يترقب بصمت. في "مسرح الضلال"، تُصوّر هذه الشخصيات في إطار من الكوميديا السوداء، حيث تُعبر الحوارات عن تناقضات الحكم واخفاق النظام، ما يُظهر التوترات والصراعات الداخلية التي تعيشها البلاد. تعكس هذه الصراعات أيضًا معاناة العائلات، حيث يتجسد العوز والاعتماد على المعونات، ويُسجّل مشهد العائلات التي تبحث عن لقمة العيش في ظل الفقر.
في المقدمة، يجلس الجمهور الأردني، يتابع بحذر. بعضهم مُلهم، يرفع صوته من أجل التغيير، وآخرون مُحبطون، يتشككون في فعالية هذه المسرحية. هنا، يتضح كيف يُشكل الجمهور جزءًا من السرد، فهم ليسوا مجرد متفرجين، بل هم فاعلون في الأحداث، يتفاعلون مع المواقف والأحداث التي تُعرض أمامهم. يُظهر "مسرح الضلال" كيف يُمكن للجمهور أن يتحول إلى عنصر مُؤثر، من خلال تصرفاتهم وتعليقاتهم التي تعكس واقعهم المعاش.
يظهر في المسرحية مشهد صراع قوي، حيث تتقاطع المصالح الفردية مع الصالح العام. يُسجل النائب الجريء خطابًا يدعو فيه إلى الشفافية ومكافحة الفساد، بينما يحاول الآخرون إسكاته. هذه اللحظة تُبرز التوترات بين الأمل والواقع، بين الوعود السياسية والإنجازات الملموسة. كما في "مسرح الضلال"، يتحول الصراع إلى تجسيد للخيبات الجماعية، حيث يصبح الفساد أداة للمناورة بدلاً من أداة للتغيير.
مع تقدم الأحداث، يتكشف مشهد غير متوقع. يبدأ المواطنون في التفاعل بشكل أكبر، يظهرون على المسرح، يعبّرون عن قضاياهم وأصواتهم. تتشكل حركات جماهيرية تطالب بحقوقها، وتصبح هذه اللحظات بمثابة الكلمة الجديدة التي تُضاف إلى نص المسرحية.
هنا، يُجسد "مسرح الضلال" الصراع بين الأجيال، حيث يسعى الشباب إلى التحرر من قيود الماضي، ويعبرون عن رغبتهم في تحقيق حرياتهم وحقوقهم.
تنتهي المسرحية بعبارة مفتوحة، تاركة الجمهور في حالة من التفكير. هل سيتحقق التغيير؟ هل ستستمر الصراعات؟ هذا المشهد الأخير يعكس طبيعة الحياة السياسية في الأردن، حيث يبقى المستقبل غير مؤكد، والمشاهدون، سواء كانوا يتفاعلون أو يتقبلون، هم جزء من الرواية المستمرة.
من خلال استكشاف ما وراء الميتافيزيقا، يسهم المسرح السياسي الأردني، مثل "مسرح الضلال"، في تجسيد التحديات الإنسانية والسياسية. يطرح المسرح قضايا ملحة، ويُعد منصة حيوية للحوار والنقاش، ما يعكس تطلعات المجتمع وتجاربه في سياق العمل السياسي. يُظهر هذا الارتباط العميق بين المسرح والسياسة كيف يمكن للفن أن يكون أداة فعالة للتغيير الاجتماعي، محولًا المشهد السياسي إلى سردٍ جماعي يتجاوز الحدود التقليدية. إن المسرح، بمختلف أشكاله، يعكس تنوع التجارب الإنسانية ويخلق فضاءً حيويًا للحوار حول قضايا مهمة، مما يجعله أداة أساسية في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي في الأردن.
"مسرح الظلال هو مسرح وهمي يعكس عالماً خيالياً بعيداً عن الواقع، حيث تتداخل فيه الأحداث والشخصيات في سرد درامي يجسد أعماق النفس البشرية وتناقضاتها."